مقال

الدكروري يكتب عن الإمام العز إبن عبد السلام ” جزء 6″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام العز إبن عبد السلام ” جزء 6″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ونكمل الجزء السادس مع الإمام العز إبن عبد السلام، فقطع عليه الطريق وأخذه، فأقام عنده بنابلس مدة، وجرت له معه خطوب، ثم انتقل إلى بيت المقدس وأقام به مدة، ثم جاء الصالح إسماعيل والملك المنصور صاحب حمص وملوك الفرنج بعساكرهم وجيوشهم إلى بيت المقدس يقصدون الديار المصرية، فسيّر الصالح إسماعيل بعض خواصّه إلى الشيخ بمنديله، وقال له تدفع منديلي إلى الشيخ، وتتلطف به غاية التلطف، وتستنزله وتعده بالعود إلى مناصبه على أحسن حال، فإن وافقك فتدخل به عليّ، وإن خالفك فاعتقله في خيمة إلى جانب خيمتي، فلما اجتمع الرسول بالشيخ شرع في مُسايسته وملاينته، ثم قال له بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان، وتقبّل يده لا غير، فقال له يا مسكين، ما أرضاه أن يُقبل يدي، فضلا أن أقبّل يده، يا قوم.

 

أنتم في وادي، وأنا في وادي، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، فقال له قد رسم لي إن لم توافق على ما يُطلب منك وإلا اعتقلتك، فقال افعلوا ما بدا لكم، فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان، وأراد إسماعيل أن يتبجح أمام الصليبيين بما فعل بالعز، وكان العز يقرأ القرآن، والسلطان يسمعه، فقال لملوك الصليبيين تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالو نعم، قال هذا أكبر قسُوس المسلمين، وقد حبسته لإنكاره عليَّ تسليمي حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء إلى القدس، وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم، فقالت له ملوك الفرنج لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها، وبقي العز في المعتقل حتى جاءت العساكر المصرية، فانتصروا وقتلوا عساكر الفرنج بالقدس، وانهزم أعوانهم.

 

ونجى العز بن عبد السلام فتابع سيره إلى الديار المصرية، فأقبل عليه السلطان الصالح أيوب، وولاه خطابة مصر وقضاءها، وفوض إليه عمارة المساجد المهجورة بمصر والقاهرة، ووصل العز بن عبد السلام إلى مصر سنة ستمائة وتسع وثلاثين من الهجرة، فلقيه في مصر الملك الصالح أيوب، فاستقبله استقبالا حافلا، وأكرمه غاية الإكرام والإجلال، وعيّنه في أعلى المناصب في خطابة جامع عمرو بن العاص وقضاء القضاة، ويوصف الصالح أيوب بأنه كان طموحا، فعندما أراد أن يقوي جيشه ويصطفي قواده ويحمي نفسه، اشترى من مال الدولة المماليك الأتراك، واستجلبهم من أواسط آسيا وغربها، ودربهم على الفروسية والفتوة والقتال، حتى نالوا ثقته، فاتسع نفوذهم حتى صاروا أمراء الجيش وقادته، وبلغ أحدهم أن صار نائب السلطان مباشرة.

 

فلما تولى العز منصب قاضي القضاة، اكتشف الخلل في الإدارة والسلطة، وأن القادة الأمراء لا يزالون في حكم الرق لبيت مال المسلمين، ولم يثبت عند الشيخ أنهم أحرار، وبالتالي فإن الحكم الشرعي عدم صحة ولايتهم من جهة، وعدم نفوذ تصرفاتهم الخاصة والعامة من جهة أخرى، ومع ذلك، فإن العز لم يشهر بهم، ولم يرفع راية العصيان المسلح عليهم، وإنما بلغهم ذلك أولا، وأوقف تصرفاتهم ثانيا، ولم يصحح لهم بيعا ولا شراء ولا نكاحا، وتعطلت مصالحهم بذلك، وكان من جملتهم نائب السلطان، فلما بلغهم ذلك عظم الخطب عليهم، واضطرب أمرهم، واستشاطوا غضبا، وثارت ثائرتهم، ولكنهم كبحوا جماح الغضب، وجاؤوا للعز بالحسنى والمساومة، واجتمعوا به للاستفسار عن مصيرهم في رأيه، فصمم على حكم الشرع وأنه يجب بيعهم لصالح بيت المال.

 

ثم يتم عتقهم ليصبحوا أحرارا، ثم يتولوا تصريف الأمور، وقال لهم بكل وضوح وصراحة نعقد لكم مجلسا، وينادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي، فرفضوا واستكبروا، ولم ينفردوا باتخاذ القرار بشأن العز، فرفعوا الأمر إلى السلطان أيوب، فبعث إليه وراجعه، فلم يرجع، فجرت من السلطان كلمة فيها غلظة على العز، وحاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر الذي لا يعنيه ولا يتعلق به، وهنا أدرك العز أن الأمراء تمالؤوا عليه، ووقفوا في وجه ما يعتقد أنه الحق وتطبيق الشرع، فأعلن الانسحاب، وعزل نفسه عن القضاء، وقرر الرحيل، ونفذ قراره فورا، فحمل أهله ومتاعه على حمار، وركب حمارا آخر، وخرج من القاهرة، وما أن انتشر الخبر في الشعب إلا وأعلن الناس الوقوف بجانب العز.

 

وقرروا العصيان غير المسلح بالالتحاق بالعز، فلم يصل العز خارج القاهرة إلا قليلا حتى لحقه غالب المسلمين من العلماء والصلحاء والتجار، حتى النساء والصبيان فقال قائل للسلطان أدرك ملكك، وإلا ذهب بذهاب الشيخ، فركب السلطان بنفسه، ولحق بالشيخ العز، واسترضاه وطيب قلبه، وطلب منه الرجوع والعودة إلى القاهرة، فوافق العز على شرطه بأن يتم بيع الأمراء بالمناداة عليهم، ورجع الجميع إلى القاهرة، وبعد ذلك حاول نائب السلطنة التدخل بالملاطفة، ثم بالتهديد والوعيد، ثم بمحاولة التخلص من الشيخ وقتله، فلما فشلت محاولاته، أذعن الأمراء للأمر، واستسلموا لحكم الشرع، وأعلن المزاد العام، ووقف العز ينادي على أمراء الدولة واحدا واحدا، ويغالي في ثمنهم، وتدخّل الشعب في المزايدة، حتى إذا ارتفع السعر إلى أقصى غايته وعجز الأفراد عنه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى