مقال

الدكروري يكتب عن الإمام ابن خلدون ” جزء 5″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام ابن خلدون ” جزء 5″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ونكمل الجزء الخامس مع الإمام ابن خلدون، أي مرحلة الهرم التي ستنتهي حتما بزواله وقيام ملك جديد يمر بنفس الأطوار السابقة التي يجملها ابن خلدون في خمسة أطوار، وحالات الدولة وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار، فالطور الأول طور الظفر بالبغية، وغلب المدافع والممانع، والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة قبلها، فيكون صاحب الدولة في هذا الطور أسوة بقومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة والحماية لا ينفرد دونهم بشيء لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب، وهي لم تزل بعد بحالها، والطور الثاني طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة، ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنيا باصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع والاستكثار من ذلك، لجدع أنوف أهل عصبيته.

 

وعشيرته المقاسمين له في نسبه، الضاربين في الملك بمثل سهمه، فهو يدافعهم عن الأمر ويصدهم عن موارده ويردهم على أعقابهم أن يخلصوا إليه حتى يقر الأمر في نصابه،

والطور الثالث طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال وتخليد الآثار وبعد الصيت، فسيتفرغ وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج، وإحصاء النفقات والقصد فيها، وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة، والأمصار المتسعة، والهياكل المرتفعة، وإجازة الوفود من أشرف الأمم ووجوه القبائل وبث المعروف في أهله، هذا مع التوسعة على صنائعه وحاشيته في أحوالهم بالمال والجاه، واعتراض جنوده وإدرار أرزاقهم وإنصافهم في أعطياتهم لكل هلال، حتى يظهر أثر ذلك عليهم ذلك في ملابسهم وشكتهم وشاراتهم يوم الزينة وهذا الطور آخر أطوار الاستبداد.

 

والطور الرابع وهو طور القنوع والمسالمة ويكون صاحب الدولة في هذا قانعا بما أولوه سلما لأنظاره من الملوك واقتاله مقلدا للماضين من سلفه، ويرى أن الخروج عن تقليده فساد أمره وأنهم أبصر بما بنوا من مجده، والطور الخامس طور الإسراف والتبذير ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفا لما جمع أولوه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته وفي مجالسه، واصطناع أخدان السوء وخضراء الدمن، وتقليدهم عظيمات الأمور التي لا يستقلون بحملها، ولايعرفون ما يأتون ويذرون منها، مستفسدا لكبار الأولياء من قومه وصنائع سلفه، حتى يضطغنوا عليه ويتخاذلوا عن نصرته، مضيعا من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواتهم وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه أي أن تنقرض المقدمة.

 

وإذن فإن تحليل ابن خلدون بولادة ونمو وهرم الدولة هو ذو أهمية بالغة، لأنه ينطلق من دراسة الحركة الداخلية للدولة المتمثلة في العصبية، تلك المقولة الاجتماعية والسياسية التي تعتبر محور كل المقولات والمفاهيم الخلدونية، فقد اعتمد عليها اعتمادا أساسيا في دراسته الجدلية لتطور المجتمعات الإنسانية العمران البشري وكأنه يبشر منذ القرن الرابع عشر بما اصطلح على تسميته في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بالمادية الجدلية، وفي غمرة انطلاقته العلمية الرائعة الرائدة وضع إصبعه على العصب الحساس والرئيسي، وإن لم يكن الوحيد في تطور العمران البشري ألا وهو الاقتصاد، وإن النتيجة التي توصل إليها ابن خلدون في الفصل الثاني من مقدمته عند بحثه للعمران البدوي وهي إن اختلاف الأجيال في أحوالهم انما هو باختلاف نحلهم من المعاش قادته بالضرورة.

 

إلى دراسة عدة مقولات اقتصادية تعتبر حجر الزاوية في علم الاقتصاد الحديث، مثل دراسة الأساليب الإنتاجية التي تعاقبت على المجتمعات البشرية، وانتقال هذه الأخيرة من البداوة إلى الحضارة، أي من الزراعة إلى الصناعة والتجارة وأما الفلاحة والصناعة والتجارة فهي وجوه طبيعية للمعاش أما الفلاحة فهي متقدمة عليها كلها بالذات وأما الصناعة فهي ثانيها ومتأخرة عنها لأنها مركبة وعلمية تصرف فيها الأفكار والأنظار، ولهذا لا توجد غالبا إلا في أهل الحضر الذي هو متأخر عن البدو وثان عنه، ويركز ابن خلدون على الصناعة جاعلا منها السبب الأساسي في الازدهار الحضاري إن الصنائع إنما تكتمل بكمال العمران الحضري وكثرته، إن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها، كما تناول مقولة تقسيم العمل بالتأكيد على أن النوع الإنساني لا يتم وجوده إلا بالتعاون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى