مقال

عادت أوروبا تعيش ذكريات بعض أسوأ أيامها

جريدة الأضواء

عادت أوروبا تعيش ذكريات بعض أسوأ أيامها

كتب / يوسف المقوسي

كان الظن أن سنوات الجوائح والأوبئة والمجاعات والحروب والهجرات، كلها ولت إلى غير رجعة. كان الظن أيضا أن العصر الذهبي الذي كانت تعيشه دول أوروبا لسنوات بعد انقضاء الحرب الباردة هو التعويض المناسب لقارة عانت طويلا وكثيرا. خاب الظن، أو كهذا يبدو لنا. نحن أهل العرب الذين دفعوا ثمنا باهظا للتعامل مع آثار هذه المعاناة الأوروبية على امتداد عصور ما بعد الظلام. دفعناه وبعضنا في أفريقيا ما يزال يدفع تحت ضغط استعمار قديم متوحش أو جديد ظالم وإن متطور ومتجمل، وفي ظل عنصرية تكشف أحيانا عن قبح مقزز؛ كما يحدث في فلسطين، وكما كشف دفء استقبال أوروبا السعيدة لموجات الهجرة نتيجة أحداث أوكرانيا، وكما تكشف الآن تطورات داخلية متشابهة في عدد من دول الغرب، أو في ظل عنصرية تتخفى في أنماط مبتكرة من السلوك التمييزي بين مواطني الوطن الواحد وفي التعامل مع دول العالم النامي. من هذه الأنماط ما درجنا أن نطلق عليه تأدبا واعتدالا عبارة ازدواجية المعايير.

دفعني إلى هذه المقدمة حالة في العلاقات الدولية تبدو في مظهرها غير جديدة وليست طارئة وهي في جوهرها جديدة وطارئة. تبدو في المظهر تكرارا لسياسة عدم الانحياز التي دشنتها الهند مع دول في العالم النامي في منتصف عقد الخمسينيات من القرن الماضي للتعامل مع حالة دولية بعينها، وهي ليست كذلك. الحالة الدولية الراهنة تختلف جذريا عن الحالة الدولية في الخمسينيات من القرن العشرين. هي أقرب ما تكون إلى حالة اندفاع متهور ورهيب نحو فرض هيمنة دولة كبرى واحدة ومحو نفوذ كل الدول الكبرى الأخرى، أو نحو تعددية قطبية تتوازن القوة فيها بعد حرب ضروس وتتوزع مسئولية القيادة على قطبين أو ثلاثة لا أكثر. يدرك العالم النامي بخاصة أن لا ناقة له أو جمل في هذا الاندفاع المتهور إلا حقيقة أن المعارك الكبيرة بين القوى المتصارعة حتى النهاية سوف تمتد لتجرى فوق أرضه وضد مصالحه وثرواته ومستقبله.

 

السؤال المفجر لهذا المقال أثاره موقف الهند من الصراع الأمريكي الروسي الدائر على الأرض الأوكرانية. للهند دور في نشأة وقيادة حركة الحياد الإيجابي. ولكن الهند في خمسينيات القرن العشرين ليست هي الهند في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، وآسيا ليست آسيا والعالم ليس العالم. الهند اختلفت. الهند التي كانت دورا وقائدا في حد ذاتها أو مع أقران لها هي الآن، رغم تقدمها في التكنولوجيا والإنتاج الصناعي والزراعي، تقضي بعض وقتها باحثة عن اعتراف بها كإمبراطورية تاريخية من حقها لم شملها المتناثر.

يؤمنون في حزبها الحاكم بسردية أمة هندية تعيش على أراضٍ تمتد في الشمال من أفغانستان وباكستان وبنغلاديش والتبت ونيبال وشرقا من ميانمار وجنوبا حتى سيريلانكا وفي المحيط الهندي حتى جزر المالديف.

الهدف من الحرب غير المعلنة والناشبة الآن هو تغيير بنية وقواعد عمل النظام العالمي ومؤسساته لصالح طرف أو طرفين أو الأطراف الثلاثة مجتمعة. النجاح في صنع وتنفيذ هذا التغيير يعني وقوع ثورة في النظام الدولي وفي مجمل العلاقات الدولية. الفشل في صنع هذا التغيير أو في تنفيذه يعني بدون شك كبير أن العالم دخل أو على وشك أن يدخل مرحلة تنذر بالفوضى. بعض مكونات هذه الفوضى ليست خافية. نعرف مثلا أن الصين أدركت منذ سنوات أن روسيا القوة العظمى انحدرت ويتواصل انحدارها. نعرف أيضا أن الصين أدركت أن الولايات المتحدة انحدرت هي الأخرى ويتواصل انحدارها وهذا باعتراف وتصريحات آخر رئيسين أمريكيين وتقارير عن تراجع خطير في مخزون السلاح وتدهور البنية التحتية. نعرف كذلك أن الصين القوة العظمى الصاعدة قفزا لا تزال بعيدة عن الوصول إلى مبتغاها.

 

غير خاف السباق الآخر، سباق الأقطاب الثلاثة على الهند. وغير خاف أن للهند مشروعها الخاص، وغير مستبعد أن يكون لها دور أساسي في صنع الثورة أو الفوضى.. أيهما أقرب ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى