مقال

الدكروري يكتب عن الإمام الحريري ” جزء 4″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام الحريري ” جزء 4″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

وأحرز قصبات السبق على كل قائل، وقال الفقيه الراوية أبو القاسم بن جهور أنه دخل يوما إلى بغداد، والتي كانت تحتضن في أيامه ألف رجل وخمسمائة رجل حامل علم، وكلهم قد أثبت أسماءهم السلطان في الديوان وأجرى على كل منهم من المال بقدر مكانته وزنته من العلم، وأضاف ابن جهور بأن الحريري ألف المقامات كلها على الركاب، ذلك لأن المستظهر بالله وهو المُحب للعلماء والأدباء والمتوفَّى سنة خمسمائة وإثني عشر من الهجرة، لما أمر القاسم بصنعتها أخرج كالحافظ على العمال، فكان يخرج في الأبردين يتمشى في ضفتي دجلة والفرات، ويصقل خاطره بنظر الخضرة والمياه، فلم ينقض فصل العمل إلا وقد اجتمع له مائتا مقامة، فخلص منها خمسين وأتلف الباقي، وصدر الكتاب، ورفعه إلى السلطان الذي رفع من شأنه ومقداره وقربه إلى مجلسه، وكما قال الشيخ الفقيه أبو بكر بن أزهر نقلا عن ابن جهور.

 

أن الحريري حدث بأن قصة المقامة الثامنة والأربعين حق، وأن رجلا قام بمسجد الله الحرام، فأظهر التوبة من ذنبه، وسأل عن الوجه في كفارته، فقام أحد المصلين، فذكر اسم ابنته، ليبادر الحريري بنظم القصة جاعلا إياها مقامة، وأنها أول مقامة أثبتت في الكتاب، وفي هذا الصدد قال الشريشي سأل بعضهم علماء الأدب في عصرنا عن الحريري والبديع، فقيل لم يبلغ الحريري أن يُسمى بديع يوم، فكيف يُقارن ببديع الزمان، والحريري نفسه اعترف بفضل البديع في صدر مقاماته، قائلا إن المتصدي لإنشاء المقامات عيال عليه، ثم عاد ليدعي فضل البديع عليه لتقدمه في الزمان لا أكثر، ثم نفى في المقامة السابعة والأربعين أفضلية الهمذاني عليه حتى في الزمان أيضا، وذلك حينما قال إن يكن الإسكندري قبلي فالطل قد يبدو أمام الوبل والفضل للوابل لا للطل، ومن قام بتفضيل مقامات الهمذاني، قال إنها ارتجال دون مقامات الحريري.

 

لدرجة أن البديع كان يقول لأصحابه اقترحوا غرضا نبني عليه مقامة، فيقترحون عليه ما يريدون، فيملي عليهم المقامة ارتجالا في الغرض الذي جرى اقتراحه، ما يدل على تفضيله على الحريري، وفي المقابل فإن من يفضل مقامات الحريري على نظيرتها التي أتى بها الهمذاني فإنه يسوق الحُجج التالية وهي أن مقامات الهمذاني فيها قلة إمتاع للسامع من حديثها ذلك لأن فيها مقامات لا تزيد على عشرة أسطر، بينما تتميز مقامات الحريري بكونها أحفل وأجزل دون مقامات الهمذاني، وتفوق الحريري على الهمذاني في مقاماته بطرق أنواع من البديع لم يأتي بها الثاني، ومن هذه الأنواع الأحاجي والألغاز، ثم أن هناك ما يُقرأ طردا وعكسا في المقامة الغربية وهنالك ما هو مُهمل بلا نقط في المقامة السمرقندية، ثم أن هناك ما كان أحد الأحرف في كل كلمة من كلماته مهملا، والتالي له منقوطا على التوالي في المقامة الرقطاء.

 

وهناك الجُمل التي تكون كلمة فيها مهملة والتي تليها معجمة في المقامة المراغية، وحازت مقامات الحريري على قبول عام في سائر الأوساط الأدبية، حيث أقبل كبار العلماء في مختلف العصور على شرحها والتعليق عليها، كما أنها ترجمت إلى سائر اللغات، وقيل قدم الحريري إلى بغداد سنة خمسمائة من الهجرة وحدث بها بجزء من حديثه وبمقاماته، ومثلها مثل الأعمال الخالدة لم تخل المقامات من منتقد ومعترض، وكان أول من اعترض عليه معاصره ابن الخشاب النحوي اللغوي المتهتك، عبد الله بن أحمد، حيث أبرز ما اعتبره أخطاء للحريري، فتصدى له معاصره الإمام النحوي اللغوي ابن بري، أبو محمد عبد الله بن بري المقدسي المصري، ثم جاء بعده بقرابة قرنين شهاب الدين الحجازي، وأحمد بن محمد الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي الأديب البارع المفنن، فانتصر كذلك للحريري.

 

وكتب كتابا أسماه أجوبة اعتراضات ابن الخشاب على الحريري، وأصبحت المقامات كتابا يحفظه المتأدبون لما فيه من القصص اللطيفة والنكت اللغوبة والفوائد العلمية والمحسنات البديعية، وبقي هذا ديدنهم جيلا بعد جيل واستمر بعد وفاة الحريري بقرون، ويروي الزركلي أن الأستاذ محمد كرد علي، كان يحفظ أكثر شعر المتنبي ومقامات الحريري، ثم كانت مفردات المقامات، تضايقه حين يكتب، وتولى مقامات الحريري بالشرح علماء اللغة والأدب قرنا بعد قرن، من الهند إلى الأندلس، مذهولين ببراعتها مأخوذين بجمالها معجبين بدقائقها اللغوية، فلا يخلو جيل من شرح لها جديد يحل مشكلها ويبرز محاسنها بما يناسب العصر وأهله، من تطويل وتقصير، واهتمام بالبلاغة أو النحو أو اللغة، ولا نبالغ إن قلنا أن لها ما ينوف على مئة شرح، ومن أبرز شراحها أحمد بن عبد المؤمن القيسي الشريشي الأندلسي، وله ثلاثة شروح أشهرها الكبير وهو في مجلدين، والوسط وهو اللغوي، والثالث صغير، وهو المختصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى