مقال

الثقافة المفروضة ومآسيها

جريدة الاضواء

الثقافة المفروضة ومآسيها

كتب / يوسف المقوسي

تمر مجتمعاتنا بمرحلة خلاعة ثقافية لا سابق لها. هذه المرحلة ليست مقترنة بنهوض سياسي، ولا حتى أخلاقي، ولا اجتماعي؛ هي انحلال المجتمع الذي يتجلى في انحلال قيمه لا بمعنى زوال المعايير بل تضاربها، وتناقضها، وتشوّش الرؤية فيها، وانعدام البصيرة، واختفاء الدافع الذاتي، أو ما يسمى الضمير. واعتماد نظريات في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والدين تتناقض داخل كل منها، لا تناقض الحيوية

الديالكتيكية بل الاختلاف مع التجاور لأشلاء من كل نظرية في أي مجال ذكرناه. هي ليست حيوية التعددية في كل منا، وفي كل جماعة ومجتمع، بل ما يشبه موات الأعضاء في الجسم دون وظيفة لكل منها، فكأن الأعضاء متجاورة في قبر. فتبقى في النفس ترسبات دينية وثورية وأخلاقية، ورغبات مكبوتة، وتوقعات فاشلة، وانتصارات وهمية، وهزائم غير مرئية، ووقائع غير معترف بها، وكلها تخضع لتلاعب تكنولوجي وديني، بحيث غابت الايديولوجيا، ولم يعد لليوتوبيا مكان. عقل مستريح وأفلام أميركية مع عداء لأميركا والأميركيين لا للامبراطورية والرأسمالية. صارت الامبريالية لدى أصحاب الخلاعة الفكرية دون رأسمالية. لا يستند تحليل النظام العالمي لديهم الى ما نسميه التشكيلة الاجتماعية السياسية التي تحكم المركز وتتحكّم بالأطراف. هم في الحقيقة لا يعون الفرق بين المركز والأطراف، ولا يميزون في الحديث عن التبعية بين التابع والمتبوع. التابع يعاني من مرض الجهل وفجاجة العداء للفكر والعقل، والمتبوع تنين الرأسمالية والدين، أخطبوط مركز الرأسمال المالي وأذرعه. وحركات، بالأحرى جماعات دينية وأصولية، في الأطراف. ثروات هائلة غير مسبوقة عند الأخطبوط، وأيدي عاملة مؤمنة تسلم روحها مع نتاج عملها. ليس فقط فائض العمل، إذ لم يبق لدى معظمها عمل يضمن نتاجه لها البقاء، ومن يعمل لا تبقي له الرأسمالية من نتاج عمله سوى أقل مما يحتاجه للبقاء؛ وهي تسلّم روحها لأرباب الدين ذوي الابتسامة الساخرة، وتسلم نتاج عملها بل حياتها وإمكانية بقائها لأرباب الرأسمال المالي ذوي الأنياب المكشّرة. عند الطرفين كوميديا سوداء، جمهورها إنسانية فاقدة حس الفكاهة. لم يعد الضحك تعبيراً عن بهجة أو سرور، بل رغبة بلهاء لتمدد أو تمديد عضلات الوجه دون أن تتجاوب معها بقية أعضاء الجسد. خلاعة ثقافية وتخلّع جسدي وانخلاع ذهني غاب منه التسامح. النفس المخلعة لا تسمح بالتعدد. لديها سبب واحد لكل ما يجري على صعيد السياسة والمجتمع محلياً وعالمياً. لم يعد العقل المستريح وحده آفة الآفات. كل شيء نسبي. هان أمر العقل المستريح أمام العقل المتخلّع. شيمة النيوليبرالية تخلّع العقل وتفكك الوعي وتذرر الذهن وتفتت الروح. وراء كل إنجاز، أو انتصار، أو تقدم، شعور عميق بالفشل والهزيمة والنكبة.

 

نحن في منطقتنا عبرنا من جيل الرتابة الأخلاقية والنهوض الفكري في القرن التاسع عشر، الى جيل الرتابة الأخلاقية والرتابة الفكرية في القرن العشرين، وخاصة في مرحلة التحرر الوطني وانعدام الحرية الفردية؛ الى مرحلة الخلاعة الفكرية التي تتستّر وراءها مكبوتات أخلاقية، وخلاعة ثقافية مستوردة، في زمن الأصولية الدينية منذ اواسط القرن العشرين الى الآن. عدنا الى زمن المعجزات حيث لا رابط، أو روابط، بين الأسباب والنتائج. الأمور تحدث لأنه أريد لها أن تحدث. وأهل السنية السياسية، التي هي أساس كل الأصوليات، سواء كانت سنية أو شيعية، يعرفون معنى ذلك. كل شيء يحدث لا بسبب بل بمشيئة الخالق.

 

نحن في زمن الحقيقة الافتراضية؛ وهي ليست علاقة بين الرائي والمرئي بل هي فيض من الرائي على المرئي. فيض يقرر الرأس. ليست الحقائق الجزئية جزءاً من بناء كلي يسمى الحقيقة. هي معلومات مبعثرة لا تجتمع في شيء ألا في إطار نظري للمعلومات، ولا سياق لها. النظرية مفقودة وهي محتقرة. العلم الحديث يصعب بل يستحيل الوصول إليه ناهيك بفهمه. الحقيقة الوحيدة لدى الرائي، ولدى الرائين جميعاً، هي مجموع مفكك من حقائق جزئية، بالأحرى معلومات لا رابط بينها. تضعف القدرة النظرية لدى أصحاب التفكير وتحل الآلة الذكية مكانهم. المعلومات تزودهم بها الآلات الذكية (التي هي بالأصل سلب لذكائهم). والعقل النظري قائم لدى من يزودهم بالمعلومات؛ وهو صاحب أو مدير المنصة التي ترش وابل المعلومات على دماغ المتلقي. عملياً تفشل الإرادة، إذ ليس ما يغذي الدماغ سوى من معلومات يزرعها دماغ آخر في دماغ المتلقي. الدماغ الآخر المركزي هو صوت الامبريالية الجديدة. يسمى ذلك في بلدان المراكز الامبريالية “استمالة العقول والقلوب”. هي فعلاً سياسة إخضاع العقول والقلوب. ليست المعلومات أداة للمعرفة. هي وسائل لتأكيد السلطة بعد أن يقضي المتلقي معظم ساعات النهار أسير معلومات يزوده بها المركز الالكتروني، أو ما يسمى المنصة، جوجل أو غيره، أو سلسلة لا متناهية من المواقع المحلية. لا بد له من الخضوع والغرق تحت تأثيرها. يتدرج الأمر من الحقائق الافتراضية الى الحقائق البديلة، الى الواقع البديل. هذه هي النفس المريضة، الناتج مرضها عن الهزيمة أصلاً، والخاضعة للاستبداد الاجتماعي.

 

في المسرحية القادمة، الملك والطبقة السياسية سوف يظهرون على المسرح عراة، وسوف يشيد الجمهور بأناقة الثياب. المسرح اللامعقول قديم قدم الزمان. أوصلته النيوليبرالية الى قمة من قمم عطائه. لا مشكلة سوى أن السيناريو يتطلّب الكثير من الدم والأشلاء. فكروا في استخدام أشلاء بديلة حيوانية، لكنهم عادوا وأجروا على الأشلاء البشرية. فذلك يعطي المسرح نوعاً من الواقعية. ليس من واقع حقيقي على المسرح العربي السياسي سوى الأشلاء البشرية وبكثرة. التأبين سيكون في مقابر جماعية. المكان ليس محدوداً، إذ هو يمتد على مساحة الوطن العربي. وحفارو القبور كثيرون. ربما استخدموا الحريق لإخفاء معالم الإبادة البشرية. توفر النفط يجعل حريق الجثث أقل كلفة، إذ الحطب قليل بسبب الجفاف واضطرار الناس الى استعمال الأحراج للتدفئة. على كل حال توفر النفط يسهّل المهمة بتكاليف تتحملها خزائن الايرادات عن منتجات الكيماويات النفطية. الأسهل أن تُدمج تكاليف إحراق الجثث، بل الشعوب، في تكاليف عملية استخراج النفط والغاز. يتحمل الأمر تكاليف إنتاج إضافية. إذ أن النفط العربي جيد النوعية، سهل الإنتاج، قليل التكلفة.

 

نجحت الامبريالية في مزج النفط، السائل والغازي، بالدماء العربية. وكان ذلك مقدمة لإنتاج فكر عربي، سماه أحدهم فكر الخلاعة الثقافية العربية. اندمجت الثقافة العربية بالثقافة العالمية عن طريق النفط السائل، والغاز، والدم، وأجساد الشعوب. المسرحية الجيوسياسية تبدو هزلية لكنها مبكية. ينتشر المسرح العبثي في زمن النيوليبرالية. المضحك المبكي سيد الموقف. لكنه يخفي ويكبت شعوراً عميقاً بالحزن الذي يظن أهل الرأسمال المالي أن الأزياء الأنيقة تضفي مسحة من البهجة على مسرح الإبادة الجماعية للشعوب العربية. كأننا نشاهد ذلك الفيلم الأميركي الذي يبدو فيه رعاة البقر والنظام الذي يدعمهم قطعان لا متناهية من حيوان البيزون البري، دون سبب إلا لإزالة القطعان الكبيرة لإفساح المجال أمام الشركات الزراعية الكبرى. مذابح الإبادة تطبّق على القطعان البشرية كما الحيوانية. بعد تجفيف الأنهار العربية من منابعها في البلدان المجاورة لا بد من استخدام المواد البترولية من أجل الإحراق. تحترق الشعوب العربية بنفطها. تباً لأيام كنا نرفع فيها شعار “بترول العرب للعرب”. هو الآن يستخدم لإحراق هذه الشعوب.

 

الخلاعة الفكرية أو الثقافية مستمدة من البذائة النفطية، إذ تستخدم الموارد في شراء ما غلا ثمنه من يخوت وتحف فنية، إضافة الى إحراق الشعوب العربية بنفطها، وتشويه عقولها بدين إسلامي جديد اخترعه الاخوان المسلمون، ويطبقه أولياء الثورة الإسلامية في إيران ببراعة شديدة.

على محللي الجيواستراتيجيا المدفوعي الأجر تحليل ما يجري، لكننا نعرف سلفاً أنهم لا يفقهون شيئاً مما يقولون. كلما كثرت تحليلاتهم علماً خف منسوب الفهم عند السامعين. ليس غريباً أن يتساوق معهم منتجو الغناء والرقص لأشياء نسمعها ولا نفهمها، ونراها ولا نستسيغها. وهي على جميع الأحوال لا تطرب. أما معزوفات الحكام وأولياء الأمور السياسية والدينية، فهي أقل عبقرية. يكثر إنتاج مشاريع باهظة في أراضي شاسعة صحراوية لا تصلح تراباً أو مناخاً لها. القفز فوق التاريخ برفض التراكم وبناء مشاريع تتفق وطبيعة الأرض والمجتمع هو تعبير عن خيار مريض، عفواً كل الخيارات خلاعية. صار الشعار هو الخلاعة كنز لا يفنى. دفنت القناعة مع دفن العقل. مجون الرغبات الطاغية على الواقع والحقائق الافتراضية التي تحل مكان الواقع أساس هذه الخلاعة الثقافية التي نعيشها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى