مقال

(( الهوية _ سنام الحضارات _ إشكالية المفهوم والواقع ))

جريدة الاضواء

(( الهوية _ سنام الحضارات _ إشكالية المفهوم والواقع ))

المفكر العربي الكبير طارق فايز العجاوي

◄ يقول شلزنجر المستشار السياسي للرئيس الأمريكي الراحل كنيدى (إن المجتمع الأمريكي يأكل بعضه بعضا من الداخل بسبب الجنسيات المختلفة والديانات وهو يحاول أن يثبت وجوده ويؤكد هويته بافتعال العداء مع الآخرين).
شعوب الأرض قاطبة يبدو أن سؤال الهوية يلح عليها ويشغلها بمضامينه المختلفة ذات الهوية والخصوصية والعلاقة التبادلية. أنا مع الآخر والآخر معي وما إنجازاتي في الإرث الإنساني وما قدمت وماذا أضافت الإنسانية بإرثها وتاريخها لي، ومن هو الأصيل ومن هو الدخيل، وهل أنا تابع أم متبوع، وما موقعي السياسي على خريطة العالم وما موقع الآخر فيه .. الخ. كثيرة تلك الأسئلة التي تبدو قمة المنطقية كي نثبت هويتنا التي بمجملها تكونت ونمت على امتداد التاريخ البشرى منذ وجد على الأرض ونضج إنساناً متميزاً عن غيره من الكائنات بعشائرها وقبائلها وجماعاتها .. الخ، واحترف الصيد ولكن باحتمائها بالآخر راحلة تارة للبحث عن الطعام وتارة أخرى للهروب من التصحر، ثم أخذت بالتطور كلما اكتشف شيئاً جديداً تم التوصل إليه بالمصادفة وهكذا إلى أن تبلورت شعوبا دون أن تزول تماماً البنى الأولية التي أخذت تدخل في النسق الجديدة وهكذا بدأت تظهر الامبراطوريات والدول وأخذ يحتدم النزاع فيما بينها سواءً بقصد فرض السيطرة أو الاستحواذ على الثروات بكافة أنواعها أو بهدف السيطرة على طرق المواصلات .. الخ.
وعليه كلما كانت هذه الكيانات – دول وممالك وامبراطوريات – تراكم فائض من الثروة وتحسن إدارته ويكون هناك عدالة في توزيعه كانت تضع حجراً في بنيانها الحضاري وركنا في حضارتها ومن هنا أخذت العلوم والمعارف بكل أنواعها وأشكالها تتطور – فنون، رياضيات، فلك، فلسفة، .. الخ.
ونقطة غاية في الأهمية لابد من الإشارة إليها ألا وهي القطاع الزراعي المنطلق في الحضارة الإنسانية والذي تم اكتشافه – وهذا ثابت – من قبل المراءة وهذا القطاع يعد حقاً الأساس في الحضارة والاستقرار الإنساني من هنا أخذت الشعوب تصنع هويتها المتميزة وتحديداً حول مصادر المياه بمعنى تصنع بالعمل حضارتها ولغتها وعليه فإن إنتاج ما يحقق الاكتفاء الذاتي ويحقق الفائض هو حقاً الأساس المتين والأول لصنع أي حضارة.
مقدمة كان لا بد منها لارتباطها بذات الموضوع ..
فلقد اهتم علماء المسلمون بموضوع الهوية وأدركوا مدى أهميته، فمثلاً الجرجانى عرف الهوية بقوله (إنها الأمر المتعقل من حيث امتيازه عن الأغيار) وعلى ضوء هذا التعريف فالهوية تتميز بصفة الاختلاف عن الآخر سواءً كانت تلك العلاقة تفاعلية تكاملية أو صراع فهوية الإنسان بداية هو مغايرته للمخلوقات الأخرى كونه إنسان وعاقل وهذا هو ابسط وأول مستوى توضع فيه الهوية الإنسانية.
والمشاهدة الواقعية لتعريف الجرجانى أنه لم توجد ولم يبقى أحداً في حالة اللاحركة بل كان وبقى على الدوام في حالة سيرورة شاملة على الرغم من أن الظاهر يوحى لنا بأنه ثابت أحياناً بمعنى أنه في حالة من الحركة والتغيير الدائمين التي من خلالها وبها تتفاعل مكونات شتى تتجلى في مستويات ثقافية وعلمية وفكرية – اقتصادية سياسية اجتماعية – في وضع محدد وفى زمن محدد يقصر أم يطول لحظة سرعان ما يجرى نفيها وتجاوزها على اعتبار أن الهوية ليست معطى ثابتاً لا يتغير وهذا قطعاً يرفضه المثاليون وهم أصحاب نظرية الجوهر الثابت وأيضاً كافة التيارات الإسلامية وحتى القوميون والمحافظون .. الخ.
أما بالنسبة للعرب والمسلمين فالثابت أنه كان لهم إسهامهم الراقي المميز في الحضارة الإنسانية زمن تفتح الثقافة العربية الإسلامية وازدهارها وقدرتها الفائقة على الإفادة من الثقافات والحضارات الأخرى خاصة في البلدان التي طالها الفتح الإسلامي وهذا حقا المستند لدعاة النهضة المستعادة عن السعي للرجوع إليه في تصورات ارتجاعية غير عقلانية. قولي أن هذا المستند فيه بعض الشيء للحفاظ على المجد التليد وفيه أيضاً شيئ من الحفاظ على الهوية فالبعض يعتبر هؤلاء كالباكي على الأطلال أو كمن فاته القطار. ليس الآن باعتقادي أن سؤال الهوية يعتبر الأهم والأكثر إلحاحاً في فكرنا العربي المعاصر وهذا الطرح طال مستويات عدة بل وتنشغل بدرجات متفاوته التيارات الرئيسة الأربع في حياتنا :
1- التيار الإسلامي .
2- التيار الاشتراكي .
3- التيار القومى .
4- التيار الليبرالي .
من مداخل متباينة في سعيها الحثيث لبلورة مشروعاتها للخروج من الأزمة العميقة لدخول باب المستقبل، باعتقادي أيضاً أن سؤال الهوية في واقعنا العربي ليس سؤال أزمة عميقة انتجت قلقاً هائلاً. فواقع الحال يقول أن الأزمات ليست دائماً سلبية فربما يتولد عنها في بعض المراحل عالماً جديداً بمعنى أن تكون الأزمة هنا أزمة نمو وتنامى وفى حالتنا هذه فأن القلق الناتج عنها يكون خلاقاً ينتج عنه قطعاً كافة التساؤلات الجذرية التي تؤدى إلى التطور والنهوض وبالتالي الإجابات المتنوعة عليها القائمة على خليط من المشاريع واليوتوبيات، أما بالمعنى الإيجابي الاستشراقي أو النكوصي السلبي.
واقعنا يقول أن ازمتنا الراهنة في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج ليست أزمة نمو مهما بلغنا من التفاؤل، ولهذا دلائل كثيرة وشواهد ظاهرة نذكر من ذلك الانكسار الاقتصادي الذي حقا يضعنا في مصاف العالم الرابع – قصداً – وليس العالم الثالث كما يقال وهذا من قبل المركز الرأسمالي – صنع القرار العالمي – وبالتالي لم يعد لنا أي مبادرة أو قول في مسار الأحداث العالمية ورسم السياسات الدولية وبالتالي اصبحنا أمة تستهلك اكثر مما تنتج ونستورد اكثر مما نصدر وحتى الفائض النفطي لم يعد يسعفنا وخاصة بعد الأحداث الأخيرة في الوطن العربي والتي لا يجهلها احد وما ترتب عليها من مصائب للمنتصر والمهزوم على حداً سواء، ومن مآسي هذه الأحداث أيضاً تلك الضربة القاسية لمصداقية وجدارة الأيدلوجية القومية ونذكر من أثارها أيضاً القضاء على التضامن العربي – بحدوده الدنيا – .. الخ.
وبالحكم أيها السادة في واقعنا فأن الحرية وليست بالمعنى المطلق بل بمعناها النسبى هي دون شك إحدى الأدوات الرئيسة للتاريخ ولنمو الأمم وازدهارها وتفتح إبداعات ومواهب الأفراد فان الوضع البائس للحريات في الوطن العربي الذي يهيمن عليه الاستبداد بصوره الشتى لا يفسح المجال لتحويل الأزمة القائمة إلى أزمة نمو بل يغلق الأبواب والآمال أمام هذا الاحتمال فهو قطعاً جعجعة بلا طحن.
واخطر ما في الموضوع أيها السادة أن الوضع الراهن البائس يفتح الباب على مصرعيه أمام نمو الهويات الفرعية أو الصغرى، وأيضاً حتى هذه الثنائيات ذاتها ممكن أن تحدث الانقسام والهوية بجزئيتها كقولنا مسيحي أرثودكسي بروتستنتي ارمني .. الخ، تصور يا رعاك الله مدى الخطورة ومدى رداءة الوضع الراهن ويترتب على ذلك أن كافة هذه الهويات يمكن تفاعلها وتجادلها واختلافها ضمن نسيجنا العربي إذا ما كان هناك مناخ فيه هامش من الحرية والمزيد من الديموقراطية فتثرى بعضها البعض أو تتنازع إذا تعرض بعضها للضغط – الشواهد كثيرة ويغص بها واقعنا العربي – والحصار والتمييز أو سعى إحداها لفرض الهيمنة، علينا أن نعلم أيها السادة أن عدونا من مصلحته أن ينمى هذه الولاءات تحت مظلة القومية ويشجعها قاصدا بث الفرقة والتفتيت وصدق شاعرنا حينا قال :
تأبى الرِّماحُ إذا اجتمعنَّ تكسُّراً • • • وإذا افترقَنّ تكــسّرتْ آحادا
وبالمنظور الأيدولوجى الصهيوني العنصري المقيت في ظل الصراع معهم يراهن على تفتيت الوطن العربي ليبقى محصوراً في حدود هذه الانتماءات والولاءات الهزيلة والوقوف دون تحولها لعناصر إثراء لأمتنا الواحدة.
وبحدود علمنا لم نجد بلداً واحداً على سطح هذا الكوكب إلا بحدود ضيقة ونادرة متجانساً دينياً أو عرقياً أو ثقافياً ويمكن أن نسوق هنا النموذج الأمريكي فهي أقوى دول العالم اقتصادا في هذه المرحلة هذا عداك عن إنها تهيمن ودون منازع على سياسات المركز الرأسمالي الذي يقود العالم بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط حائط برلين وانهيار القطب أو المنظومة الاشتراكية، ويمكن أن نضيف النموذج الهندي والتي زاد عدد سكانها عن المليار نسمة وتضم طوائف عديدة لا يجهلها إلا قلة وتتشكل جغرافياً من خمسة وعشرون ولاية أما لغاتها فقد تجاوزت الثمانية عشر لغة رئيسة هذا عداك عن الآلاف اللهجات وكذلك كافة الأديان التي عرفتها البشرية بقضها وقضيضها وأيضاً تتعدد فيها القوميات.
بعض المفكرين الدارسين للموضوع الهوية يعتمد ويؤكد على الربط بين القوة والهوية – بمعنى أن القوة أساس في الحفاظ على الهوية – ويعتبرها إحدى التجليات المتنوعة للأخيرة، هذا يقودنا إلى أن الهوية الأمريكية قامت على هذا الأساس وعلى هذا النحو وفى هذا الزمن إذا ربطنا تعريف الهوية بالقوة دائماً بالامبراطوريات والقوى الاستعمارية حتى إن هوية الحضارة الرأسمالية السائدة حتى الآن قامت على شعور عميق ومتعمق بالتفوق الخلقي والثقافي للحضارة الغربية على بقية البشرية.
أما بالنسبة للنموذج الهندي فأن تجربتها الديموقراطية الأصيلة كأكبر ديموقراطية في العالم – بمضمونها الذي ذكرنا انفاً وبالتعدد المعهود – التي تتوافق كل القوى بتنوعها على حمايتها وصونها واحترامها وهى حاضنة هويتها ففي الهند كما في أمريكا هناك توافق عام حول الاعتراف بالتنوع الثقافي الذي هو بعد نخبوي والتعدد الثقافي الذي هو بعد أنثروبولوجي، وعليه فاعتماد التنوع الثقافي وتعدده يعتمد أساس في الحفاظ على الهوية، فيا حبذا لو عالمنا العربي يعتمد ذلك علماً بأن التقارب في كل شيئ واضح وبين ولكن التنازع القطري البغيض قادنا حكماً إلى التفتت لأسباب لا يجهلها أحد وبالتالي هدم أركان الهوية بعد أن كانت قائمة بحكم الواقع والطبيعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى