خواطر وأشعار

أحلى طريق

جريدة الاضواء

#وفاء_عرفه
قصة قصيرة. ” أحلى طريق “

كان يومها على نفس وتيرة الحياة، التي تحياها من سنوات طالت، حتى أنها لم تعد تفكر فى الزمن و لا تحسب الوقت الأيام كلها تشبه بعضها، لا جديد غير إختلاف مهام الحياة التى تقضيها، و لِما تُدقق فى الوقت؟ فالحياة كلها عندها أصبحت سيان.
سهام إمرأة ذات جمال من الطابع الراقى، وصلت من العمر إلى سن النضوج و الحكمة، تفكر كثيراً فى أبسط الأشياء التى تقوم بها، تملك موهبة إدارة كل ما تفعله، و لاتنسي نصيبها من الثقافة تقرأ بنهم و تتذوق الفن عموماً، تميل إلى الوحدة و تعشق الهدوء، جادة فى طباعها رغم رقة قلبها، رغم رهافة حسها وحيدة لكنها تحمل طوفان، من المشاعر داخلها لا تبوح بها لم يطرق الحب قلبها منذ صباها إلا مرة واحدة كانت فى خيالها فقط، هى لم تعترف بهذا الحب طول حياتها، و لم تُصرح به حتى لمن أحبته.
قررت سهام اليوم أن تعدل من نمط حياتها على سبيل التغيير، لكن كيف؟ فكرت أن تخرج أولاً ثم تترك قدميها تسير بها كيفما تشاء، وجدت نفسها تسير علي ضفة النيل القريب من منزل جدتها القديم ثم أطلقت العنان بخيالها للذكريات، كم سارت في نفس الطريق و هى طالبة مع رفيقاتها كُن يتجاذبن أطراف الحديث، حيث الأمل و البهجة و الفرح تملأهُن و لاسيما ضحكاتهن تعلو فى الفضاء الرحب، تسألت فى نفسها ترى هل يتذكرن تلك الأيام؟ أم دارت بهن دوامة الحياة؟!.. ظلت سهام تمشى على مهل تارة تراقب القوارب النيلية، و تارة أخرى تراقب وجوه الناس المارة قِبالتها، كأنها تشاهد أناس من كوكب آخر لم تسكنه، ثم فجأة أثناء سيرها بروية و هدوء، و قف أمامها رجلاً كأنه جدار لبنيان مرصوص و فى لحظة خاطفة حجب عنها الرؤية، التى كانت تمعن النظر فيها، تجمدت و لم تبدى أى إنفعال خارجى، لكن فى داخلها قوضها زلزال قوى، من هول المفاجأة و غرابة المصادفة، غابت عن الوعى للحظات، لكنها تبدو شامخة كعادتها، إنتبهت لصوت الرجل قائلاً بدهشة..سهام!! مفاجأة لم يخطر ببالى أن ألتقى بك بعد كل هذه السنوات الطويلة، فإستجمعت قواها و أجابت بهدوء أهلاً جلال حقاً منذ وقت طويل لم نلتقى…
كيف حالك و حال العائلة كلها.. رد عليها جلال.. بصوته الرخيم الدافء مجيباً ..كلنا بخير، سارع بسؤالها؟ أيزعجك أن أسير معك؟ فأجابت على الفور.. لك ما شئت.
بدأ جلال الحديث قائلاً: أما زلت تُحبين السير علي كورنيش النيل، كما كنتِ بالماضى.
إلتفتت إليه بوجهها الذى يعلوه إبتسامة جميلة قائلة: نعم أحب هذا الطريق، أسير فيه كثيراً كلما مللت الدنيا، و زارنى الحنين لبيت جدتى، جئت أسير و أستعيد ذكرياتى أيام الصبا و الشباب، أتذكر الأحباب الراحلون، ثم أعود بعد ذلك كأنى ولدت من جديد، لأواصل ما أنا فيه…بادلها النظرة ورد عليها بالإبتسامة
قائلاً :ما الذى يجعل نفسك تصفو و تنجلى من هذا الطريق؟
قالت سهام: أراقب على صفحات مياه النيل، كل أيامى و ذكرياتى الماضية، بينهما تشابه كلاهما يتوالى وراء بعضه و لا يعود، و كم من أمنيات تسربت منى على ضفاف النيل، تشهد على ذلك خيوط الشمس الذهبية، غروب الشمس و معهما أحلامى الوردية لعالم آخر..و معها حكايات عنى ضاعت قبل أن أرويها لأبطالها..
إبتسم جلال و قال: فى بداية هذا الطريق كان بيت جدتى رحمها الله و الذى أصبح بيت أمى الآن.
ردت سهام علي الفور قائلة : كان بيت جدتى هناك أيضاً كانتا جيران، كنا نلتقى عندهما فى زياراتنا، و نلعب معا و نحن أطفال فى حديقة البيت الكبير…
قاطعها جلال بقوله :نعم أذكر ذلك ظللنا هكذا حتى بلغنا عمر الصبا، ثم توفيت جدتك و لم تعودى للزيارة و بعدها إنقطعت أخبارك عنا.
بدأ الحديث بينهما يأخذ منحى الحنين للماضى، كلاهما تأثر بذكريات الزمن البعيد و أيامه الجميلة، فمن رحم الفقد يولد الحنين، شعرت سهام بأن شيئاً بداخلها، يود أن يخرج و يصر عليها أن تعترف عن جزء من الماضى لم يعرفه جلال، عن قصتها التى لعب فيها دور البطولة دون أن يدرى لكنها ترددت أن تبوح بذلك، لماذا بعد كل هذا العمر فقد إنقضى وقت الإعتراف و لا سبيل حتى لتعويض أى شئ..
داهمها جلال بصوته الحنون، كما كان أيام الصبا لم تتغير نبرته الحانية، التى كانت تحبها كثيراً، علاوة علي تلك الإبتسامة المشرقة ظلت أول ما تتذكره به، عندما تداعب الذكريات خيالها.
بادر قائلاً: كنت أجمل الفتيات وقتها و حلم الجميع لكنك لم تلتفتى لأحد منا، ثم إنقطعت أخبارك عن الجميع، كنت أسأل عنك و عن أخبارك كلما حانت لى الفرصة.
قالت سهام بدهشة: أحقاً كُنت تتابع أخبارى؟
أجابها: نعم أعرف أيضاً الخطوط العريضة لحياتك.
قالت: أنا أيضاً كنت أتابع أخبارك دوماً، و كنت أتحاشى الحديث عنك للمقربين بيننا.
فاجأها بالسؤال و أقترب منها: لماذا كنت تتحاشين السؤال عنى؟
فى تلك اللحظة لم تتمالك سهام مشاعرها، تدفقت برقة عاطفتها التى أخفتها عمراً طويلاً حتى عن نفسها، نظرت فى عينيه نظرة عميقة مخترقة خبايا نفسه و حنايا قلبه،
أستشعرت وجوداً لها فى أعماقه، كم تمنت لو حدث ذلك أيام الصبا.
أجابته بصوت جاء من عالم الروح الأبدى، أنت يا جلال قصة حبى التى لم تبدأ بيننا، لكنها لم تنتهى بعد بينى و بين قلبى، رغم أنى عشت حياتى لكننى كنت وحيدة لم أتوقع يوماً أن ألقاك و أبُوح لك، هزت المفاجأة كيان جلال، و بدت عليه الدهشة و قال: أتعلمين أننى بحثت عنك كثيراً !!!
ثم سألها: لماذا لم تُخبرينى بمشاعرك وقتها؟
فردت عليه بإبتسامة تعجب!! و هل كنت أملك الجرأة لأخبرك بذلك يا جلال..
صمت جلال و لم يرد.. لبرهة من الوقت، و ظلا يسيران معا، جنباً إلي جنب و إقتربا من بعضهما حتى تلامست أناملهما و ألتقت فى تشابك يشبه الجديلة، نظر جلال أمامه صوب الطريق ثم قال بصوت كأنه آت من عالم بعيد و زمن أبعد..
كُنتِ لى حلماً بعيداً.. و صعب المنال.. كنت أراكِ فى برج عالى و كيف لى الوصول لك..
إحتضنت سهام يده بقوة و أعربت عن سعادتها لما سمعته و قالت إعتقدت أنى لا أمثل لك شيئاً ثم أكملت حديثها بقولها: شاء القدر أن نلتقى صدفة، ليدور بيننا حوار العمر، دون ترتيب منا، و نمضى سوياً ذلك الطريق القديم، لعلمك.. أسعدنى الطريق الذى مشيناه صدفة أكثر من كل واقعى الذى عشته سلفاً.
و إنتبها الإثنان بأنهما وصلا لنهاية طريق الذكريات، فتوقفا عن المسير مُودعان بعضهما، ثم نظرت سهام ل جلال و قالت كلمة أخيرة..مشيت هذا الطريق كثيراً.. لكن اليوم كان..أحلى طريق..و استدار كل منهما عائداً من حيث آتى دون الوعد بلقاء آخر…
الكاتبه وفاء عرفه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى