مقال

الإمام النعمان بن ثابت ” أبو حنيفة “

الإمام النعمان بن ثابت ” أبو حنيفة ”

بقلم / محمــــد الدكــــرورى

 

النعمان بن ثابت بن المَرزبان، هو الإمام أبو حنيفة، وهو من أبناء فارس الأحرار، ينتسب إلى أسرة شريفة في قومه، أصله من كابل عاصمة أفغانستان اليوم ، أسلم جده المرزبان أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتحول إلى الكوفة، واتخذها سكنا، فهو الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، وإسمه النعمان بن ثابت بن المرزبان، ويعود نسبه إلى أسرة من أشراف الفرس، أسلم جدّه في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وانتقل إلى الكوفة وعاش فيها، وهناك ولد الإمام عام ثمانين للهجرة على أرجح الأقوال، وكانت أسرته أسرة غنية تعمل بالتجارة .

 

 

فكانت بداية أبي حنيفة تاجرا، وقد حفظ القرآن الكريم في صغره، وحج البيت الحرام وهو ابن ست عشرة سنة مع أبيه، ويروى أن والده ثابت قد عاصر عليا بن أبي طالب كرّم الله وجهه، فدعا له بالخير ولذريته كذلك، وقد أخذ العلم عن شيوخ بلغوا أربعة آلاف شيخ، منهم سبعة من الصحابة، وثلاثة وتسعون من التابعين، ومن بقي منهم من تابعي التابعين، وقد أخذ الفقه عن حمّاد بن أبي سلمة، ومن شيوخه أيضا عطاء بن أبي رباح والشعبي وعمرو بن دينار ومحمد الباقر، والد الإمام جعفر الصادق، وابن شهاب الزهري، وأخذ عنه العلم خلق كثير منهم القاضي أبو يوسف ووكيع ، وكان شيخ الإمام الشافعي وعبد الرزاق بن همام وكان شيخ الإمام أحمد بن حنبل.

 

وولد أبو حنيفة رحمه الله بالكوفة سنة ثمانين من الهجرة على القول الراجح، ونشأ رحمه الله بالكوفة في أسرة مسلمة صالحة غنية كريمة، ويبدو أنه كان وحيد أبويه، وكان أبوه يبيع الأثواب في دكان له بالكوفة، ولقد خلف أبو حنيفة أباه بعد ذلك فيه، وحفظ أبو حنيفة القرآن الكريم في صغره، شأنه شأن أمثاله من ذوي النباهة والصلاح، وحين بلغ السادسة عشرة من عمره خرج به أبوه لأداء فريضة الحج وزياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ومسجده، وكان أول ما اتجه إليه أبو حنيفة من العلوم علم أصول الدين ومناقشة أهل الإلحاد والضلال، ولقد دخل البصرة أكثر من سبع وعشرين مرة، يناقش تارة ويجادل ويرد الشبهات عن الشريعة تارة أخرى، وكان يدفع عن الشريعة ما يريد أهل الضلال أن يلصقوه بها .

 

فناقش جهم بن صفوان حتى أسكته، وجادل الملاحدة حتى أقرهم على الشريعة، كما ناظر المعتزلة والخوارج فألزمهم الحجة، وجادل غلاة الشيعة فأقنعهم، ومضى الإمام أبو حنيفة رحمه الله في هذه السبيل من علم الكلام وأصول الدين، ومجادلة الزائغين وأهل الضلال، حتى أصبح علما يُشار إليه بالبنان، وهو ما يزال في العشرين من عمره، وقد اتخذ حلقة خاصة في مسجد الكوفة، يجلس إليه فيها طلاب هذا النوع من العلوم، ثم توجه أبو حنيفه رحمه الله إلى علم الفقه، وتفقَه على حماد بن أبي سليمان، حتى صار مقربا عنده، وقد قال شيخه حماد “لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة” وكان زاهدا ورعا، أراده يزيد بن هبيرة أمير العراق أيام مروان بن محمد أن يلي القضاء فأبى، وأراده بعد ذلك المنصور العباسي على القضاء فامتنع، وقال “لن أصلح للقضاء” فحلف عليه المنصور ليفعلن، فحلف أبو حنيفة أنه لن يفعل، فحبسه المنصور.

 

وكان واسع العلم في كل العلوم الإسلامية، وهو الذي تجرد لفرض المسائل وتقدير وقوعها وفرض أحكامها بالقياس، وفرع للفقه فروعا زاد في فروعه، وقد تبع أبا حنيفة معظم الفقهاء بعده، ففرضوا المسائل وقدروا وقوعها ثم بينوا أحكامها، وكان أبو حنيفة يختم القرآن في كل يوم، ثم حين اشتغل بالأصول والاستنباط واجتمع حوله الأصحاب أخذ يختمه في ثلاث في الوتر، وصلى أبو حنيفة ثلاثين سنة صلاة الفجر بوضوء العتمة، وحج خمسا وخمسين حجة، وبلغ عدد شيوخ أبي حنيفة رحمه الله أربعة آلاف شيخ، فيهم سبعة من الصحابة، وثلاثة وتسعون من التابعين، والباقي من أتباعهم، ولا غرابة في هذا ولا عجب، فقد عاش رحمه الله تعالى سبعين سنة، وحج خمسا وخمسين مرة، وموسم الحج يجمع علماء العالم الإسلامي في الحرمين الشريفين.

 

وكان أستاذ الإمام أبي حنيفة هو حماد بن أبي سليمان، وهو تابعي كوفي ثقة، وقد روى عنه أبو حنيفة رحمه الله ألفي حديث من أحاديث الأحكام، وأكثر من ثلث أحاديث الإمام في مسنده الذي جمعه الحصكفي، هي برواية الإمام عنه، عن إبراهيم بن أبي موسى الأشعري، عن الأسود، عن السيدة عائشة رضي الله عنهم، وقد ابتكر الإمام أبو حنيفة رحمه الله نموذجا منهجيا في تقرير مسائل الاجتهاد، وذلك عن طريق عرض المسألة على تلاميذ العلماء في حلقة الدرس ليدلي كل بدلوه، ويذكر ما يرى لرأيه من حجة، ثم يعقب هو على آرائهم بما يدفعها بالنقل أو الرأي، ويصوب صواب أهل الصواب، ويؤيده بما عنده من أدلة، ولربما تقضت أيام حتى يتم تقرير تلك المسألة.

 

وهذه هي الدراسة المنهجية الحرة الشريفة التي يظهر فيها احترام الآراء، ويشتغل فيها عقل الحاضرين من التلامذة، كما يظهر علم الأستاذ وفضله، فإذا تقررت مسألة من مسائل الفقه على تلك الطريقة، كان من العسير نقدها فضلاً عن نقضها، وقد قال المُوفق المكي “وضع أبو حنيفة رحمه الله مذهبه شورى بينهم، لم يستبد فيه بنفسه دونهم اجتهادا منه في الدين، ومبالغة في النصيحة لله ولرسوله والمؤمنين، فكان يلقي مسألة مسألة، يقلبها ويسمع ما عندهم ويقول ما عنده، وربما ناظرهم شهرا أو أكثر من ذلك، حتى يستقر أحد الأقوال فيها، ثم يثبتها القاضي أبو يوسف في الأصول، حتى أثبت الأصول كلها.

 

وإذا أشكلت عليه مسألة قال لأصحابه ما هذا إلا لذنب أذنبته، ويستغفر، وربما قام وصلى، فتنكشف له المسألة، ويقول رجوت أنه تيب عليَّ” وقد قال وكيع بن الجراح شيخ الشافعي”كان أبو حنيفة عظيم الأمانة، وكان يُؤثر الله على كل شيء، ولو أخذته السيوف في الله تعالى لاحتملها” وقال الإمام الشافعي “ما طلب أحد الفقه إلا كان عيالا على أبي حنيفة، وما قامت النساء على رجل أعقل من أبي حنيفة” وقال الإمام أحمد بن حنبل “إن أبا حنيفة من العلم والورع والزهد وإيثار الآخرة بمحل لا يدركه أحد، ولقد ضُرب بالسياط ليوالي للمنصور فلم يفعل، فرحمة الله عليه ورضوانه” وقال الإمام أبو يوسف “كانوا يقولون أبو حنيفة زينه الله بالفقه، والعلم، والسخاء، والبذل، وأخلاق القرآن التي كانت فيه” وقال عنه الإمام سفيان الثوري “ما مقلت عيناي مثل أبي حنيفة”.

 

وكان مضرب المثل في الرأي والحكمة والعقل، أثنى عليه علماء كثر، فقال عنه الإمام الشافعي “الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة” وقال عنه الإمام مالك “لو أراد أبو حنيفة أن يُقنع الناس أن هذه السارية، أي العمود ذهبا لأقنعهم” وكان لا يخجل أن يروي العلم عن من هو أصغر منه سنا، فقد روى عن مالك بن أنس وهو أصغر منه سنا، وكذلك روى عن شيبان النحوي وهو أيضا أصغر منه سنا، وقد تعرض في حياته لمحنتين عظيمتين، وكانت الثانية أعظم من سابقتها، واحدة في عهد الدولة الأموية والأخرى في عهد الدولة العباسية، فقد تعرض الإمام أبو حنيفة النعمان لمحنة في عهد الدولة الأموية وأخرى في عهد دولة بني العباس، وقد عاصر الإمام الدولتين وكانت معظم حياته أيام الأمويين، ففي أيام الأمويين طلب ابن هُبيرة.

 

وكان والي الكوفة وقتها من الإمام أبي حنيفة أن يتولى قضاء الكوفة، فرفض الإمام أبو حنيفة النعمان ذلك، فجلده ابن هبيرة مائة سوط ورفض الإمام ولم يلين، فعندما رآه ابن هبيرة كذلك خلى سبيله، ثم لما تولي أبو جعفر المنصور خلافة العباسيين طلب من الإمام أبي حنيفة أن يكون قاضي القضاة، وهذا منصب له أوزار كثيرة كما يرى الإمام أبو حنيفة النعمان، فرفض ذلك، فأقسم المنصور أن يكون أبو حنيفة القاضي، وأقسم أبو حنيفة النعمان ألا يستلم ذلك المنصب، فحبسه المنصور وأذاقه من الويلات في سجنه ما لا يحتمله من هو في ريعان الشباب بل أن يحتمله ابن السبعين عاما، فتوفّي رحمه الله في سجنه، وكان ذلك سنة مائة وخمسون من الهجرة، بعد أن قضى حياته عابدا صائما ساجدا راكعا وقد حجّ خمسا وخمسين مرة، وكان يختم القرآن في كل يوم مرة، وعندما مات صلى عليه الناس ست مرات لشدة ازدحامهم عليه، فرحمه الله وعوض المسلمين خيرا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى