مقال

الدكروري يكتب عن الرحمة فوق الفضائل الإنسانية 

جريدة الاضواء

الدكروري يكتب عن الرحمة فوق الفضائل الإنسانية

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يركز على الرحمة تركيزا شديدا كلما اشتدت إليها الحاجة، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل الرحمة فوق الفضائل الإنسانية كلها هؤلاء المساكين الذين تسوقهم ضرورات العيش إلى الدين، ثم تعجزهم ضحالة الدخل عن السداد، فيعانون من أجل الديون همّ الليل وذلّ النهار، هؤلاء يأسو جراحهم النبي صلى الله عليه وسلم، إنه لا يملك أن يقول للدائن تنازل عن حقك، فمحمد صلى الله عليه وسلم خير من يصون الحقوق، لكنه يهب الدائن شفاعته، وقلبه، وحبه إذا هو أرجأ مدينه، وصبر عليه حتى تحين ساعة فرج قريب، فقال عليه الصلاة والسلام “من أنظر معسرا أو وضع له، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله” رواه أحمد والترمذي، وقال عليه الصلاة والسلام أيضا “من أراد أن تستجاب دعوته، وأن تكشف كربته، فليفرج عن معسر” رواه أحمد، ويجعل النبي صلى الله عليه وسلم.

 

الرحمة فوق الفضائل الإنسانية كلها، فيجعل كل عمل رحيم عبادة من أزكى العبادات، فعند النبي صلى الله عليه وسلم أن أعمالنا الرحيمة التي نسديها للآخرين إنما يراها الله قربات توجه إليه ذاته، فإذا زرت مريضا فأنت إنما تزور الله، وإذا أطعمت جائعاً فكأنما تطعم الله، يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه “يا بن آدم مرضت ولم تعدني، قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين، قال أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده، أما علمت أنك لوعدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي” رواه مسلم، ويصور النبي صلى الله عليه وسلم رحمة الله بصورة باهرة أخاذة، حينما رأى أما تضم طفلها إلى صدرها في حنان بالغ، ورحمة بالغة، فالتفت إلى أصحابه وقال لهم “أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟

 

قال أصحابه لا والله يا رسول الله، قال لله أرحم بعبده من هذه بولدها” والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم حطم كل معالم التمايز بينه وبين الناس، فذات يوم تقدم منه أعرابي في غلظة وجفوة، وسأله مزيدا من العطاء، وقال اعدل يا محمد، ويبتسم عليه الصلاة والسلام، ويقول له “ويحك يا أعرابي من يعدل إن لم أعدل” رواه مسلم، فإن الطمأنينة التي دفعت هذا الأعرابي إلى هذا الموقف المسرف في الجرأة، هذه الطمأنينة وحدها تصور عدل النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان هذا الأعرابي قادرا على أن يقول مقالته تلك لو كان محمد صلى الله عليه وسلم أقام بينه وبين الناس حجبا، وبث في نفوسهم الخشية والرهبة، لكن هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حطم كل معالم التمايز بينه وبين الناس، وحينما دخل عليه رجل غريب يختلج، بل يرتجف من هيبته، استدناه وربت على كتفه في حنان وفرط تواضع، وقال له قولته الشهيرة

 

“هون عليك فإني ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة” رواه ابن ماجه، فلقد هيأه تفوقه صلى الله عليه وسلم ليكون واحدا فوق الناس، فعاش واحدا بين الناس، فيسأله أعرابي يوما، في بداوة جافة، يا محمد هل هذا المال مال الله أم مال أبيك ؟ ويبتدره عمر يريد أن يؤنبه، فيقول عليه الصلاة والسلام” دعه يا عمر إن لصاحب الحق مقالا ” وانطلاقا من قيم العدل التي آمن بها صلى الله عليه وسلم، ودعا إليها، يبين عليه الصلاة والسلام ويقول “كل المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه” رواه مسلم، وأن لزوال الدنيا جميعا أهون على الله من دم سفك بغير حق” رواه البيهقي، ولو أن إنسانا استطاع بطلاقة لسانه وقوة حجته أن ينتزع من فم النبي صلى الله عليه وسلم حكما، ولم يكن محقا فيه لا ينجو من عذاب الله، فيقول عليه الصلاة والسلام “إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخية شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعه من النار فلا يأخذها” متفق عليه.

 

فإن النبى محمد صلى الله عليه وسلم محب ودود، أطاع الله كثيرا، لأنه أحبه كثيرا، بر الناس كثيرا، لأنه أحبهم كثيرا، أحب عظائم الأمور، وترك سفسافها ودنيها، أحب عظائم الأمور، ومارسها في شغف عظيم ممارسة محب مفطور، لا ممارسة مكلف مأمور، لقد سجد، وأطال السجود، وسُمع وجيب قلبه، ونشيج تضرعه وبكائه، لأنه في غمرة شوق جارف، ومحبة أخاذة، كان ينتظر الصلاة على شوق، فإذا دخل وقتها قال” أرحنا بها يا بلال ” رواه أبو داود، فيقول صلى الله عليه وسلم “أرحنا بها لا أرحنا منها، وهذا هو الفرق بين الحب والواجب، وقيل ذات يوم كان في الطائف يدعو قومها إلى الله، فقابلوه بالتكذيب والسخرية والإيذاء، وأغروا به سفهاءهم، وألجؤوه إلى حائط، رفع رأسه إلى السماء، وناجى ربه، فقال “يا رب، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي” رواه الطبراني.

 

أي إنه لا يخشى العذاب والألم إلا إذا كان تعبيرا عن تخلي الله عنه، ثم أدرك النبى صلى الله عليه وسلم أنه لا ينبغي للمحب الصادق أن يشغله استعذاب التضحية عن رجاء العافية، فيستدرك ويقول “لكن عافيتك هي أوسع لي” وقيل ذات يوم أقبل على النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم رجلا فظا غليظا، لم يكن قد رآه من قبل، غير أنه سمع أن محمدا يسب آلهة قريش والقبائل كلها، فحمل سيفه، وأقسم بالله ليُسوين حسابه مع محمد، ودخل عليه، وبدأ حديثه عاصفا مزمجرا، والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، وتنطلق مع بسماته أطياف نور آسر، وما هي إلا لحظات حتى انقلب المغيظ المتجهم محبا يكاد من فرط الوجد والحياء يذوب، وانكفأ على يدي محمد صلى الله عليه وسلم يقبلهما ودموعه تنحدر غزيرة، ولما أفاق قال يا محمد والله لقد سعيت إليك وما على وجه الأرض أبغض إلي منك، وإني لذاهب عنك وما على وجه الأرض أحب إلي منك.

 

فما الذي حدث ؟ لقد أحب محمد صلى الله عليه وسلم الرجل من كل قلبه، فخر جبروت هذا الرجل صريع حب وديع، فإن قلب محمد صلى الله عليه وسلم مفتوح دائما لكل الناس، الأصدقاء والأعداء، وحينما اقترب الرجل من رسول الله صلى الله عليه وسلم مسته شعاعة من فيض قلبه الكبير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى