غير مصنف

ساكنوا الجماعة المغلقة لا يحتاجوا للآخرين

جريدة الاضواء

ساكنوا الجماعة المغلقة لا يحتاجوا للآخرين

 

كتب / يوسف المقوسي

 

يختلف الحزب الديني عن بقية الأحزاب الأخرى، يمينية كانت أو يسارية، أو حتى طائفية. هو مضطر بحكم العقيدة الى جعل الوجود خاضعاً لغاية إلهية. الغاية تعلو على الوجود. تتسامى فوقه. تجعله خاضعاً لقضية؛ جوهر القضية غائيتها.

 

الأحزاب الأخرى تنطلق من وجود الناس. تعدهم بتلبية المطالب والرغبات. ليست الغاية، إلهية أو غير إلهية، هي ما تستند إليه الأحزاب الأخرى، بل وجود الناس؛ على الأقل بنظر أصحابها. أما الحزب الديني، فهو ملتزم حكماً بما يتعدى الناس ووجودهم. بين الوجود والقضية، يخضع الوجود للقضية. لما كانت القضية إلهية بمقتضى ما يفرضه الدين، يحتاج الحزب الديني الى مواجهة مع خصوم الدين أو أعدائه. فالواجب يقضي دعوة الآخرين وهدايتهم. فينشأ لدى الحزب الديني جهاز دعوة يتحوّل أحياناً، أو في معظم الأحيان الى مجاهدة تكون باستعمال العنف المسلّح. جهاز الدعوة يتوازى مع جهاز المجاهدة. لما كانت الدولة الحديثة هي من يُفترض بها أن تحتكر العنف المسلّح، يضطر الحزب الديني الى إنشاء “التنظيم” خارج إطار الدولة. “التنظيم” المسلّح بدأ عند الاخوان المسلمين قبل غيرهم من المذاهب الإسلامية. ومطلب تطبيق الشريعة ذاته يفترض دولة خارج إطار الدولة الرسمي، أو ما يسمى دولة ضمن دولة. كل دولة غير دينية، لا تستحق الاعتبار بنظرهم، لأنها ليست صادرة عن الله.

 

يخجل أتباع الأحزاب اللادينية من تعصبهم، ربما لأنها تعني بما تعنيه، نهب الدولة والسطو على حصص الأحزاب الأخرى. لا يخجل أصحاب الأحزاب الدينية من دعوتهم وتدينهم. فهم يعتبرون أنفسهم وأحزابهم مكرسين لله والهداية للإيمان. هؤلاء يتعاملون مع الآخرين باستعلاء وسخرية. لا يهمهم الناس ولا حياة الناس ومطالبهم، ولا يجدون أنفسهم مضطرين لأي ولاء للناس أو للدولة. ولاؤهم لله وحده. له يدينون والقضية التي يعملون من أجلها ذات قدسية تفيض عليهم. هم يتعاملون بالمقدس والحلال في وجه الحرام. الحزب اللاديني يتواضع إذا ظهر ما يُبطنه. يتباهى أصحاب الحزب الديني بما يُظهرونه ويُبطنونه. يُخفي الحزبي اللاديني مشاعره الحقيقية. أبناء الأحزاب الدينية لا يفصلون بين ما يضمرون وما يبطنون. الدعوة لله في كل شيء يفعلونه. هذه العلاقة تحصنهم أخلاقياً في المواجهة بينهم وبين أنفسهم، ومع الآخرين. الأخلاق علاقات بين البشر. هي في أحسن الأحوال تجسيد لعلاقة مع المتسامي. وما بينهم وبينه يعلو على كل علاقة دنيوية بين البشر. كل شيء مسخّر للغاية. والغاية هي المتسامي والدعوة له. يندمجون في قضيتهم اندماج الصوفيين في حلقات الذكر. يخاطبون أنفسهم ولا يبادلون الناس الخطاب. لا فضاء للحوار والنقاش. كل فعل يصدر عن تكليف. صاحب الأمر والنهي يتوجه الى أبناء حزبه بعلاقة ذات اتجاه واحد. تصدر عنه وتصل إليهم في مجال غير سياسي. إذا مارسوا السياسة فذلك ليس لخدمة الناس في إدارة المجتمع بل لإثبات أن كل شيء في خدمة الباري تعالى. يتعالون مع تعاليه. يتسامون مع تساميه. تساميهم يجعلهم جماعة دون الناس.

 

هم غير الآخرين في تساميهم. جماعة مغلقة. انغلاقها ينبع من التغاير. ما يسري عليهم لا يسري على غيرهم. الخير والشر لا يتعلقان بالفعل بل يصدران عن أنفسهم. صاحب النفس النبيلة يفعل الخير دائماً. ما يفعلونه هو الخير حتى ولو تشابه مع ما يفعله الآخرون واعتُبِرً شراً. سفارتهم رحلة الى المتسامي؛ خير دائم. سفارات الآخرين رحلات الى الشياطين ومن بينهم الشيطان الأكبر الذي يتولى الامبراطورية. حتى ولو اتصلوا بالشيطان الأكبر فذلك ابتلاء. هم مبتلون بهذه الدنيا. ومن أسباب وجودهم فيها الابتلاء بما كان ولا يزال هو الوسواس الخناس.

 

ساكنو الجماعة المغلقة لا يحتاجون الى الآخرين؛ هؤلاء يحتاجون إليهم. حرف الجر خاصتهم هو علاقة عامودية تأخذهم الى الأعلى. حرف الجر الخاص بالآخرين علاقة أفقية بين الناس. الدولة علاقة بين الناس. علاقة متبادلة، من البشر الى البشر، عن البشر والى البشر. العلاقة لديهم، أي الحزب الديني، هي فقط من وعن المتسامي. هو يستحق الوفاء له. الوفاء له واجب يحتمه الدين. السياسة تفترض علاقات أفقية لا يمكن الوفاء فيها، بل يجب في السياسة أن تكون القضية وفاء للناس. يفي الإنسان بوعده. الوعد لا يكون صادقاً إلا إذا تضمن الوفاء للمتسامي وصدور القبول عنه. الشهادة عند الله مكرمة؛ فعل نبالة. لا علاقة لها بالموت. الموت للآخرين. يخلّد الشهيد من عبوره من دار الفناء الى دار البقاء.

 

التفسير الحرفي للكتاب المقدس يحتسب الملائكة في عداد المجاهدين. الأرقام الصادرة عن زعامة الحزب الديني تأخذ الأمر بالاعتبار. فعدد المشاركين في المجاهدة ليس مستنداً الى إحصاء بشري. لا يكتمل العدد إلا بحسبان الملائكة ضمنه. ألم يدعم عمر بن الخطاب جيش عمرو بن العاص الذي كان قليل العدد بآلاف من الملائكة؟ نقل الرواية إبراهيم عيسى عن المؤرخين القدماء في إحدى رواياته. فهل احتسب عدد الملائكة في المئة ألف مجاهد؟

 

يعتمد الحزب الديني على المغايرة. هم غير الناس. خير أمة أخرجت للناس؛ ألا يقول النص المقدس ذلك؟ مغايرتهم تفترض استثنائيتهم وتعاليهم على الآخرين، حتى والهزء بهم وبمصائبهم ومصائرهم. لا مصير يستحق الاحترام إلا الشهادة. يعتمدون التربية والتلقين ليكون ذلك جزءاً من اقتناع الأتباع وعقيدتهم. هؤلاء لا يحتاجون الى ثقافة عامة ومعرفة تهدفان الى الإحاطة بما حولهم بل التدريب على ولوج طريق الشهادة. ما تطوّع الملائكة لنصرتهم إلا لأنهم كذلك.

 

لديهم عادة احتقار الناس واعتبارهم العوام الذين لا قيمة لمشاعرهم ومطالبهم. هم لأخذ التلقين وحسب. أصحاب العمامة يلقنونهم وقادة الحزب الديني يوجهونهم في سلوكهم اليومي وفي مسيرهم الى الشهادة. احتقار الناس متجذّر في عقيدتهم. لذلك ينكرون أن ثور الشعب والثوريين المنتمين لأحزاب وحركات أخرى ثورة ويتخذون الموقف ضدها. يناصرون أنظمة عربية استبدادية وتطبيعية بحجة إخوة الإسلام.

هم دائماً في صف الثورة المضادة. ثورة الناس ومطالبهم ضد أنظمتهم ومطالب إسقاط النظام. هي كلها ضد النظام القائم عربياً ومحلياً. لا بد وأنهم ينفذون إرادة إلهية في زعمهم. النظام القائم لم يوجد إلا لأن الله أراده. هل يحدث أي شيء على الأرض إلا بإرادة المتسامي ؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى