غير مصنف

يحق لكل الدول ممارسة حقها

جريدة الأضواء

كتب / يوسف المقوسي

يوما بعد يوم يتعزز الاحتمال بأن تزداد فرص نشأة تجمع من دول أغلبها ينتمي إلى العالم النامي تبحث لنفسها مجتمعة عن موقع في خريطة توزيع جديد للقوى الدولية. أغلب الظن أن الظروف الدولية الراهنة والمتوقعة تدفع هذه الدول نحو الأخذ بصيغة تقترب من صيغة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز التي تبنتها قبل حوالي سبعين عاما مجموعة دول حديثة الاستقلال السياسي بهدف تحصين هذا الاستقلال والنأي بشعوبها عن صراع عقائدي وعن براثن استعمار جديد. وقتئذ ساد الاقتناع بأن الوقوع في شبكات هذا الصراع سوف يعرقل النمو ويشوه صورة الاستقلال ويعيد سطوة الهيمنة الأجنبية.

وقفت عوامل بعينها وراء جهود ومساعي وأفكار تشكيل تجمع يضم دولا بعينها ويقترب بالشجن أو بالتمني من تجمع دول الحياد الإيجابي في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي. وقتها كانت الحرب الباردة في أوج انطلاقتها وكثيرون يشبهون هذه الحالة بالحالة الراهنة في العلاقات بين الدول العظمى. واقع الحال يتجاوز هذا الشبه إلى متغيرات دولية استجدت وبعضها ربما كان بالمقارنة لا يقل أهمية عن متغيرات ذلك العصر.
أحاول هنا، وإن بصعوبة، حصر بعض تفاصيل هذه المتغيرات أو العوامل في فقرات موجزة تهدف أساسا إلى إلقاء الضوء عليها .

أعرض من هذه المتغيرات والحوارات الدائرة بشأنها ما يلي:
اقتراب متزايد ومتصاعد من نهاية منظومة قواعد وهياكل وضوابط النظام الاقتصادي العالمي التي نظمتها وصاغتها اتفاقات بريتون وودز قرب نهاية الحرب العالمية الثانية. تحت هذا العنوان تندرج قضايا وتطورات بالغة الأهمية إحداها، ولعله أهمها على الإطلاق، بدايات تراجع خجول ولكن جرىء لسلطة الدولار الأمريكي وسيادته وهيمنته. أقول بدايات وخجول لأننا لم نتعرف بعد على رد الفعل الأمريكي على الخطوات الأولى التي أقدمت على اتخاذها بعض الدول في سعيها للدوران حول أزمة القروض وقضايا وصعوبات تمويل استيراد المحاصيل الغذائية والسلع الأساسية، أو على قرارات السماح لدفع فواتير النفط بعملات محلية وعملات دولية أخرى غير الدولار. هذه الدول لا شك أنها تعيش أيامها الراهنة تحت توقع رد فعل غير ودي من جانب الولايات المتحدة، رد فعل قد يشمل دولا في الاتحاد الأوروبي. لا يخالجني شك كبير في أن هذه الدول تسعى للحصول على دعم دول أخرى منتجة ومستوردة للطاقة أو للحبوب والأسمدة والأسلحة، وفي سعيها هذا تفضل الحث على تشكيل حركة أو مجموعة تضم الدول المتضررة من هيمنة الدولار لتمثل جهة ضغط في النظام الدولي تحمي حقوقها ضد ما تتوقعه من إجراءات حرب اقتصادية تشنها أمريكا ضدها .

يلحق بقضية هيمنة الدولار قضايا اقتصادية ذات صلة وثيقة بالتنمية. من هذه القضايا الصعوبات المتزايدة المرتبطة بتعاملات الدول النامية مع المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية التي تهيمن على قراراتها سلطة ونفوذ أمريكا ودول ممولة أخرى. غير خافية الجهود المبذولة حاليا لإنشاء مؤسسات بديلة أو الاستفادة من مبادرات تقدمها دول وتكتلات متخصصة أو إقليمية لدعم تنمية شعوب العالم النامي. المشكلة التي ما تزال تواجه حكومات الدول النامية تكمن في أن المؤسسات البديلة يقع أغلبها تحت مظلة قوى كبرى تعتبرها الولايات المتحدة منافسة لها، وبالتالي سوف تتعرض الدول المتعاونة معها لإجراءات حروب اقتصادية شرسة تشنها أمريكا بضراوة.

في حد ذاتها أصبحت الحروب الاقتصادية والتشنجات الناتجة عنها سمة بارزة من أهم سمات المرحلة الراهنة من مراحل تطور النظام الدولي. لم تعد تقتصر على العلاقات بين دول القمة بل تجاوزتها لتصبح سيفا مسلطا على جميع الدول التي تختار مواجهة النفوذ الأمريكي أو التوسع فيه على حساب مصالحها. المثال الذي يتبادر فورا للذهن يتعلق بما يتوقعه نظام حكم الرئيس لولا دا سيلفا في البرازيل. لقد فاز الزعيم البرازيلي في انتخابات الرئاسة ضد رغبة وإرادة واشنطن ورغبة وجهود وأموال المحافظين في القارة اللاتينية وضد مصالح صناعة الأخشاب والتجارة فيها وضد أموال ونفوذ مصالح أوروبية. أظن مع كثيرين غيري أن أمريكا لن تتأخر في أن تفرض على الرئيس البرازيلي خفض نشاطه ولجم علاقاته بروسيا والصين والتوقف عن دعوة دول أخري في إفريقيا وأمريكا اللاتينية للانضمام لمجموعة البريكس التي تضم إلى جانب البرازيل كلا من الهند واتحاد جنوب إفريقيا، ولكنها تضم أيضا روسيا والصين، القوتان اللتان تدخلان مع الولايات المتحدة والغرب عموما في سباق منافسة، الذي هو في شكله ومضمونه الراهن أقرب شيء ممكن لنموذج الحرب الباردة.
لا تتوقف عند هذا الحد علامات ومؤشرات التحول في النظام الاقتصادي العالمي. المؤكد مثلا، في اعتقاد الكثيرين، أننا نعيش مرحلة حرجة وربما حاسمة في تاريخ تطور النظام الرأسمالي. المؤكد أيضا أن حرب أوكرانيا تسببت في وقوع شرخ يتعمق بالتدريج في هيكل ومنظومة وحلف دول الغرب، وفي الوقت نفسه عجلت بسباق تسلح رهيب طرفاه الصين وأمريكا كما استحضرت “عفريت” العسكرة إلى داخل كل من اليابان وألمانيا. وليس خاف على من عاش أو درس تجربة الحرب العالمية الثانية مغزى هذا التطور الخطير.

الانضمام لتكتل غير منحاز قد يكون الضمان الأمثل لدول عديدة في ظروف صعبة كالتي يمر بها عالم اليوم. من حق كل الدول وليس مجموعة صغيرة جدا، كالحادث الآن، اتخاذ القرارات التي تمس حقوق ومصالح شعوب الدنيا كافة. إلا أنه يتعين على الدول التي حرمت طويلا في مرحلة القطب الواحد من ممارسة حقها في المشاركة أن تدرك أنه ينتظرها عقوبات ومطاردات وإجراءات، بعضها عنيف، قبل أن يتحقق لها غرضها في التزام الحياد الإيجابي سياسة وموقفا بين قطبين أو معسكرين يستعدان لصراع مديد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى