مقال

الحق فى القرآن الكريم الجزء الخامس عشر

 

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء الخامس عشر مع الحق فى القرآن الكريم، وقد توقفنا عند لماذا لا يكون هناك تعاون في محاربة هذه الأشياء التي يتفق الجميع على أنها كفر أو باطل أو حرام؟ وهذا أيضا بطبيعة الحال لا يعنى أننا نحرم أو نمنع الكلام في الأمور الفرعية كما يفعله البعض، كلا، لا مانع أن يتحدث الإنسان فى قضية فرعية أو جزئية، أو فى سنة من السنن أو في مسألة خلافية ويبين الراجح ويبين المرجوح، بالأدلة، كل هذا لا مانع منه، لكن الشيء الذي أقصده ألا يتحول هذا الأمر إلى سبب يوجد عدم التعاون بين المؤمنين في أمور يتفق الجميع على أنها يجب أن تقاوم وتحارب، وبعض الدعاة يقولون يجب أن يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ونتعاون فيما اتفقنا عليه، وأقول هذه الكلمة تحتاج إلى إيضاح، فلا يجب قبولها أو ردها دون أن تحدد، ففى الأشياء التي يختلف فيها المسلمون إن كانت من قضايا العقيدة أو من قضايا الأحكام التي الأدلة فيها واضحة، وقال فيها إنسان رأيا بدون اجتهاد فلا يعذر في ذلك، فإذا أخطأ شخص في قضية عقدية لا نعذره في هذا الخطأ، أو إنسان أخطأ في قضية ولو من غير قضايا العقيدة، لكنه أخطأ بناء على أنه تكلم في أمور بدون اجتهاد في أمور هو ليس أهلا لها هذا الإنسان أيضا لا يعذر في هذا الخطأ، لكن إذا اجتهد وهو أهل للاجتهاد في هذه المسالة فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، وكذلك التعاون فيما اتفق عليه، هذه القاعدة صحيحة داخل إطار أهل السنة والجماعة، أما مع الطوائف الضالة والطوائف المنحرفة التي غيّرت وبدلت.

 

فإن المسلم يعرف أنه لا بد من وضوح الراية وتميز المنهج، وليس من المعقول أن نقول يجب أن نتفق أو نتعاون مثلا مع الرافضة فيما اتفقنا معهم فيه، كحرب الشيوعية، هذا غير صحيح لأنه يمكن أن يأتي إنسان ويقول لماذا لا تتعاون مع النصارى في حرب الشيوعية أيضا؟ وهذا غير صحيح، فلا بد من وضوح الراية، ومن المهم جدا أن يكون الناس عندهم تمييز بين الحق والباطل بحيث أنه لا يوجد التباس عندهم بين راية الحق وراية الباطل، فداخل إطار أهل السنة والجماعة يمكن أن يتعاون الجميع فيما اتفقوا عليه، فالقضية الأولى هي قضية الولاية التي يتناصر بها أعداء الرسل وهي توجب للمؤمنين أن يتناصروا فيما بينهم بحبل الله ودين الله الذى يربط بعضهم ببعض، وأن الملاحظة الثانية وهى قضية التلبيس التي يحدثها أعداء الرسل، لاحظ قول الله عز وجل كما جاء فى سورة الأنعام ” شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا” إذن هناك مؤامرة عالمية ليست جديدة كما نتصور، صحيح أنها قد تطورت الآن وأخذت شكلا جديدا، وأسلوبا جديدا، وبعد جديداً، لكنها قديمة، وهي الحرب الإعلامية ضد الإسلام، وحملة الإسلام، وحملة السنة، والتي تشوه الحق وتلبسه لبوس الباطل، وتلبس الباطل لبوس الحق بتزين الألفاظ وزخرفة العبار وزخرفة القول، ولذلك يقول القائل في زخرف القول تزيين لباطله والحق قد يعتريه سوء تعبير، تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذاقيء الزنابير، مدحا وذما وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير، فالمعنى الواحد قد يعبر عنه الإنسان بلفظ واحد.

 

أو لفظين، أو عبارتين بينهما بون شاسع، وقيل أن أحد الخلفاء رأى في منامه أن أسنانه سقطت، فقال عليّ بمن يعبرون الرؤيا، حتى يعبروها لي، فجيء بمعبر، فقال له إني رأيت في المنام أن أسناني سقطت، فقال له يموت أولادك كلهم وأنت حي، فغضب عليه الخليفة وأمر بجلده مائة جلدة، وقال عليّ بمعبر آخر، فجيء له بمعبر آخر حكيم فقص عليه رؤياه، فقال له هذا المعبر، يا أمير المؤمنين أنت أطول أهلك عمرا، فأمر له بجائزة ضخمة والنتيجة واحدة، فما دام أنه أطول أهله عمرا فمعنى ذلك أنهم سيموتون قبله لكن الأسلوب الذي قدم له به في الحقيقة يختلف، فالحق أحيانا قد يعتريه سوء تعبير، قد يُعبر الإنسان عن الحق بعبارة لا تخدم الحق، بل ربما يصور بعض المغرضين الحق بصورة الباطل، من ذلك أنك قد تجد مثلا أن إنسانا يعمل بسنة من السنن، وهذه السنة متفق على أنها من السنن فلو قال للناس إن فلانا يعمل بهذه السنة لقال له الناس وماذا؟ هذا إنسان متبع مجتهد ويجب أن يشكر على عملة، لكنه لا يقول هذا بل يقول إن فلانا متنطع فيه كذا وكذا، وأنه يعتبر هذه السنة واجب، وقد يكفر من لا يعمل بها، وقد يعدها ركنا من أركان الإسلام، وبذلك ألبس الحق لبوس الباطل ولبّس به على الناس، وفي كثير من البلاد الإسلامية أصبحت وسائل للهدم والتخريب كأن يكتب كاتب في أي بلد إسلامى قصة ينشر منها مئات الآلاف من النسخ في المكتبات المختلفة خلال فترة وجيزة، لأنها قصة تتحدث عن قضايا الغريزة والجنس والإثارة، فيقبل عليها الشباب والفتيات إقبالا كبيرا، إضافة إلى أعداد هائلة من الدواوين الشعرية

 

التي تسير في هذا الاتجاه، زخرفت الباطل وزينته بالحق كم من ديوان صدر وتلقفته الأيدى في كل مكان، وترى الكتاب يباع بأغلى الأسعار، ولا تخلو منه مكتبة، ومئات الآلاف من النسخ تطبع منه، فيروج بشكل رهيب، لماذا؟ إنه زخرف القول تزيين الباطل، فهذا نموذج يؤكد لك أن الكلمة من أخطر ميادين الصراع بين الأنبياء وأعدائهم، والذين ينخدعون بهذه الأشياء من هم؟ فيقول الله تعالى فيهم كما جاء فى سورة الأنعام ” ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة” إذن لا تروج هذه الأشياء إلا حين يكون هناك خواء وفراغ روحي وعقلى، فتصبح الشعوب مستعدة لتلقى هذا الزخرف من القول، فلو كان عند الناس وعي لما تأثروا بهذا الباطل، لكن المؤسف أنه في غياب الوعي، وفى غياب الإيمان بالآخرة، وفى غياب المفاهيم الصحيحة يكون هناك فراغ يمكن أن يملأ بهذه الأشياء، وهذه القضية أيضا تؤكد على حملة رسالة الإسلام أنهم لا بد أن يستفيدوا من أجهزة الإعلام مسموعة أو مقروءة أو مرئية في الدعوة إلى الحق وحمايته ونشره، وبناء الفضيلة والأخلاق، وأنه لا بد أن يستفيدوا من الوسائل الأدبية من القصة، ومن المقالة، ومن القصيدة، في الوصول إلى كافة الطبقات من الناس وإيصال الحق إليهم، فليست مثلا المحاضرة، أو الدرس العلمي، أو الخطبة، أو الموعظة هي الوسيلة الوحيدة، نعم هذه لا شك هي وسائل لها تأثير ولها جمهور ولكن هناك جمهور، آخر لا بد له من وسائل أخرى، لأن الحق لا يجب أن يصل إلى كل أذن بقدر ما يستطاع، فالكلمة الطيبة تقارع الكلمة الخبيثة، ولا بد أن تقال في كل ميدان.

 

وفي كل وسيلة حتى تفعل هذه الكلمة الطيبة فعلها، وإن الملاحظة الثالثة التي نستفيدها من الآيات والأحاديث في موضوع الصراع أو الخصومة بين الحق والباطل هي ثبات الحق وانتصاره ورسوخه وطيشان الباطل وزواله، وهذا ظاهر من خلال الآيات السابقة، فإن الطائفة التي تحمل الحق سماها الرسول صلى الله عليه وسلم الطائفة المنصورة إشارة إلى أن النصر هو حليفهم في النهاية طال الزمن أم قصر، وهذا نموذج من الخصومة بين الحق والباطل، لأن الخصومة قد تكون خصومة فكرية، وقد تكون خصومة في ميدان القتال، وإن الملاحظة الرابعة، وهى أن هذا النصر الموعود ليس أمرا يأتى بقضاء الله وقدره بدون جهد البشر، والله قادر على ذلك، فالله تبارك وتعالى خلق في السماء ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون” وفي حديث أبي ذر الغفارى في صحيح مسلم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم “أطت السماء وحق لها أن تئط والأطيط وهو صوت الراحل إذا ثقل عليها الراكب أو غيره صار له صوت أطيط وأزيز، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك راكع أو ساجد” فهؤلاء لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فالله تبارك وتعالى قادر على أن يخلق البشر كذلك لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لكن خلقهم عز وجل بهذه الصفة، وجعل الإنسان في ميدان الخصومة بين الحق والباطل للابتلاء والامتحان، فالله تبارك وتعالى شاء أن يخلق بشرا يمكن أن يهتدي، ويمكن أن يضل ليتحقق بذلك الابتلاء والاختبار لحكمة يعلمها، وهو عز وجل أحكم الحاكمين.

 

فهذا النصر ليس غنيمة باردة يقبضه الإنسان بدون ثمن، بل لا بد من الصبر والجهاد، وكما أن أهل الباطل يجهدون ويجاهدون ويتعبون، فكذلك أهل الخير، إذ أن الجهد الذى يبذله أهل الباطل يجب أن يبذل أهل الخير لا أقول مثله، لكن أقول يجب أن يبذل أهل الخير ما يستطيعون في مواجهته ” لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ” فلا يظن الإنسان أن الطريق معبده، وأنها مفروشة بالورود والرياحين، ويكفيه أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لاقوا في سبيل هذا الطريق ما لاقوا، منهم من أوذي، ومنهم من أخرج، ومنهم من طورد حتى قال ورقة بن نوفل كما في صحيح البخارى للنبي صلى الله عليه وسلم أو ل ما بُعث ” ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك، قال أومخرجي هم؟ قال نعم، لم يأتى أحد بمثل الذي جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ” وهذا الذي حدث فعلا حيث أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم، وقصة إخراجه من مكة فيها عبرة، وفيها ما يثير نفوس المؤمنين، وكأني أنظر إليه صلى الله عليه وسلم وقد طارده المشركون وضايقوه وأحكموا عليه الخناق حتى اضطروه إلى الخروج من مكة البلد الأمين الذى يحبه صلى الله عليه وسلم، فخرج حزينا على ذلك، فلما وصل إلى الحزورة، وهو مكان يقع إلى الشرق من الكعبة، وهو اليوم أسواق التفت إلى الكعبة وهو بقلب حزين ودمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال يخاطب مكة ” والله إنك لأحب البلاد وأفضل البلاد إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت” ولما ذهب إلى المدينة صلى الله عليه وسلم وأصابته الحمى.

 

وكان في المدينة محمومة في ذلك الوقت، وأصابت الحمى أصحابه، فكانوا يقعون تحت طائلة هذه الحمى، حتى إن بعضهم كان يقول من شدة الحمى ولا يعى ما يقول ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة بوادى وحولى إذخر وجليل، وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل، يتطلعون إلى معالم ومواضع وأماكن وجبال في مكة عاشوها وما حولها، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول ” اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة كما أخرجونا من ديارنا إلى ديار الوباء” ثم دعا صلى الله عليه وسلم للمدينة أن ينقل حماها إلى الجحفة، وأن يصححها للمؤمنين، وعلى المرء أن يتذكر الأجر الذي سيناله من الله في الدنيا والآخرة أو العذاب والحرمان والطرد من رحمة الله إن خالف أمره، وعلينا أخيرا أن نتذكر المصالح التي ستجنيها الأمة من قول كلمة الحق وعدم المتاجرة بها وتغييبها من مواقع الناس فكلمة الحق كلمة طيبة كشجرة طيبه أصلها ثابت وفرعها في السماء بكلمة الحق ينصر المظلوم، ويُردع الظالم، وتحفظ الدماء، وتصان الأعراض، وتؤدى الحقوق، ويُؤتى بالواجبات، وتقوى العلاقات ويأمن الإنسان على نفسه وماله وعرضه، وبكلمة الحق يقل المنكر ويضعف الفساد، وتتلاشى المحسوبية، ويندحر النفاق، وتتقن الأعمال ويعبد الله حق عبادته، ويقول الله عز وجل كما جاء فى سورة الكهف “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” وفيها أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما فيه نقض ما يفتله المشركون من مقترحاتهم، وتعريض بتأييسهم من ذلك.

 

 

فقد أمره الله تعالى في الآية الكريمة بأن يصارحهم، بأنه لا يعدل عن الحق الذي جاءه من الله تعالى، وأنه مبلغه بدون هوادة، وأنه لا يرغب في إيمانهم ببعضه دون بعض، ولا يتنازل إلى مشاطرتهم في رغباتهم بشطر الحق الذي جاء به، وأن إيمانهم وكفرهم موكول إلى أنفسهم، لا يحسبون أنهم بوعد الإيمان يستنزلون النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما أوحي إليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى