مقال

مفهوم التنمية الشاملة ” الجزء السادس

 

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء السادس مع مفهوم التنمية الشامله، ولقد كان من دأب العرب في الجاهلية أنهم إذا أصيبوا بمكروه أو مرت بهم مصيبة, عزوها إلى شؤم غيرهم ونسبوها إلى سبب من الأسباب الخارجة عن أنفسهم, فكانوا دائما يرون أن المصائب التي تمر عليهم إنما هى من شؤم كذا وكذا, ولا يرجعون شيئا منها إلى أنفسهم، حتى إذا أكرمهم الله بالإسلام وببعثة سيد الأنام محمد صلى الله عليه وسلم, فقوّم هذا التصور الأخرق الذى كانوا ينطلقون منه, فأنزل الله عز وجل فيما أنزل تصحيحا لعاداتهم وتقويما لتصوراتهم فقال تعالى فى سورة الشورى” وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ” و قال تعالى فى سورة النساء ” ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ” أى أن كل إنسان يتحمل جريرة نفسه فإن ألمت به مصيبة فليرجع إلى ذاته وليتساءل عن سببها داخل كيانه, وإذا انتابه مكروه فليشم رائحة كفه, وليعد إلى حاله, ويتبين سبب ذلك في أمر من أمور خاصته، إذا ليس هناك شؤم ينتاب الأمة.

 

وذلك من جراء عامل خارجي شؤم الإنسان منوط بنفسه ومصائب الأمة نابعة من ذاتها فقال تعالى فى سورة آل عمران ” أولما أصابكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شئ قدير” ولكن يبدو أن المسلمين عادوا يحنون إلى الوضع الجاهلى الذى كان قبل الإسلام, فما من مصيبة تمر بنا إلا ونبحث عن سبب لها خارج أنفسنا خارج وجودنا، فإننا نعاني اليوم كما تعلمون لا من مصيبة واحدة بل من مصائب كثيرة, ولا داعي للخوض في بيانها, ولكن أين الذين يعودون إلى أنفسهم ليبحثوا عن عوامل هذه المصيبة في واقعهم, في سلوكهم, في شؤونهم وعاداتهم, أين المسلمون الذين يعملون في معالجة هذه المصائب على ضوء قوله تعالى كما جاء فى سورة الشورى ” وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير” ولقد كان سلفنا الكرام يحاسبون أنفسهم على الصغيرة والكبيرة, فيقول الحسن البصرى رحمه الله “لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه, ماذا أردت تعملين؟ ماذا أردت تأكلين؟

 

وماذا أردت تشربين؟ والفاجر يمضى قدما لا يحاسب نفسه” وكان الأحنف بن القيس يجيء إلى المصباح وهو مشتعل فيضع أصبعه فيه ويقول “حس يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا, ما حملك على ما صنعت يوم كذا” وقال مالك بن دينار رحمه الله “رحم الله عبدا قال لنفسه ألست صاحب كذا ثم ألزمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله عز وجل” وهذا الإمام إبن سرين يقول “إنى لأعرف معصيتى في خُلق زوجتى ودابتي” ويعنى إذا رأى تغير في أخلاق زوجته أرجع ذلك إلى نفسه, واعتبر أن ذلك أثر من أثار ذنبه، فمن منا يتعامل بذلك المنطق, لا أحد منا يقبل أن يلوم نفسه أو يخطأ نفسه, أغلبنا يرى نفسه فوق النقد ويرجع ما أصابه إلى الآخرين, لقد عاد أغلبنا اليوم إلى ما كانوا عليه في العصر الجاهلى نعلق مشكلاتنا بمشاجب غيرنا, أما نحن فهيهات هيهات أن تمر بنا ساعة نجلس فيها إلى أنفسنا ولو دقائق فى مواجهاتها في لحظات من النقد الذاتى, لننتقد في هذه الساعة أنفسنا سلوكنا أخلاقنا عاداتنا، فنسمع كلنا كلام رسول الله.

 

صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن الفتن “إذا رأيت شحا مطاعا, وهوى متبعا, ودنيا مؤثرة, وإعجاب كل ذى رأى برأيه, فعليك بخاصة نفسك, ودع العوام” وإذا نظرنا إلى هذا الحديث وإلى واقعنا نجدنا أننا على النقيض تماما من هذا الحديث, فالمصائب التي تأتي إلينا من يمين وشمال تترا نسلط عليها الضوء ونتحدث عنها ونعلق عليها, ولا يعود الواحد منا ربما للحظة إلى تقويم اعوجاجه, إلى البحث عن سبب هذه المصائب في بيته في كيانه في أسرته, في التربية الجانحة التي يمارسها بعيدا عما ورثه من كتاب الله وعما بلغه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن مرض العامة هو مظهر لمرض متموضع في كيانك, ونحن اليوم مطلوب منا أن نعالج هذه المصائب كلها بدواء واحد لا ثاني له، وهو أن نعود إلى أنفسنا بساعة قدسية من النقد الذاتي, ماذا فعلنا حتى سلط الله علينا العدو؟ ماذا صنعنا حتى منينا بهذه المصائب المختلفة؟ ماذا ارتكبنا حتى تحولت وحدتنا إلى تفكك وخصام؟ فينبغي أن يطرح كل منا هذه الأسئلة في ساعة صدق وتوجه.

 

 

ولكن عندما ننظر إلى حال الأمة وهي وسط هذه البلايا والرزايا العظام, نجد أنها عاكفة على ألوان من الغى لا لون واحد فقط, ألوان من المعاصي والمخالفات والصدود، فعندما ننظر مثلا إلى إعلام المسلمين وهو في غمرة البلاء نجد أشكالا من التفاهات, من أفلام ومسلسلات لا تنتهي, وسهرات وبرامج لا تؤكد واقع الانتماء, وكأنما يقع للمسلمين خيال أو مجرد أوهام, سفاهات تدعو إلى الزنى وإلى العهر إلا من رحم الله وسلم، ومن تلك المصائب العظام التى جاء بها الإعلام وسوق لها الأقزام, تلك المسابقات التي يجتمع فيها شباب وشابات لمدة في بيت واحد، ليختار منهم في الأخير عن طريقة تصويت الجمهور, يصوتون ويتابعون ويتفاعلون، وعندما يختار أحدهم يستقبل في بلاده استقبال الفاتحين, وكأنه فتح بيت المقدس, أو نفع الأمة بعلم, أو اختراع يرفع قدراتها, أو يجعل لها مكانا وسط الأمم، إن المسلمين ليسوا أغبياء والمفروض فيهم أنهم ليسوا أغبياء, فالكل يعلم الأموال المرصودة لاقتحام هذا اللون من ألوان البرامج التي تسمى بتلفزيون الواقع.

 

وهو واقع مر أليم، هذه الأموال ترصد من أجل تقويض البقية الباقية من الشرف, من أجل تقطيع بقايا الحبل الموصول بيننا وبين كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا ضاعت الأمة فقد تودع منها, فهذه البرامج لا شرع يبيحها ولا ذوق يصوغها, إنما هي بيع الوهم, واستعمال اسم النجم بدل اللفظ المناسب وهو الفحم, يجلس الشباب والشابات في أحوال يمجها الطبع السليم, ويرفضها الشرع الحنيف, ثم يأتى بعد ذلك الوالدان الذان فازت ابنتهما ليحمدا الله على فوز ابنتها, ويقول الأب “الحمد لله” يحمد الله على المعصية، الحمد لله الذى وفق ابنتي ولم يخيب ظنى وأملي, ورفعت ابنتي اسم بلدى، لا والله، لا بهذا يرفع اسم البلدان, وما بهذا تتحقق العزة المنشودة والمنعة المأمولة, فهذا الانبطاح وهذا الذوبان وهذا التهتك لا يجسد إلا حقيقة واحدة, هي أننا ابتعدنا عن الله وعن شرع الله تعالى حتى انقلبت عندنا الحقائق, وأصبنا بعمى الألوان, وهذا يؤكد واقع عدم محاسبتنا لأنفسنا, إذ لو كان كل واحد منا يحاسب نفسه.

 

ويزنها بميزان الشرع لما كان هذا مستساغ, وبالتالي لما كانت الأمة على ما هى عليه اليوم من تبعية وانبطاح وانهزامية، فإن إحساس النفس بأنها بدون حسيب ولا رقيب يجعلها تنطلق جامحة في كل اتجاه, تقتحم ميادين العهر والفجور وهي فرحة مسرورة, وهو فرح ظاهره البشر, وباطنه الحزن والخراب والبوار، وإن عدم وجود مبدأ المحاسبة في حياة الأفراد والمجتمعات يؤدى إلى التبلد وإلى فقدان الإحساس, وهذا هو الواقع الذى يؤدي إلى ضعف المسلمين واهتزاز فكرهم, هذا الواقع الذي حجب ضوء الشمس عن عالمية الإسلام, ويبدو واضحا أن إزالة واقع الانحراف المزمن والمستقر بهذه الدرجة المشهودة والمشاهدة, يحتاج إلى جهد جهيد وإلى عزم أكيد, فلن يزول هذا الواقع بالترقيع الفكرى, أو الأداء الدينى الخالى من الفهم والإدراك, والإحساس بالمعاني, إزالة واقع الأمة الأليم لن يتحقق بعقد بضع مؤتمرات هنا وهناك, أو مسابقات أو معارض أو ما شابه، فإن إزالة الانحراف الهرم الذي سكن فينا يحتاج إلى اكتشاف أنفسنا من جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى