مقال

أنبياء مزيفون ” الجزء الأول

 

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

 

إن الله تعالى بعث رسله الكرام عليهم السلام ليدلوا الناس عليه، ويبصروا الخلق بالطريق الموصل إليه، وكلما عفت معالم رسالة سابِقة، وخفت وهج النبوة فى نفوسِ أتباعها، بعث الله رسولا يجدد من معالم الدين ما ندرس، ويحيِى فى الناسِ ما عفا منها أو التبس، وإن أخطر شيء في الدين هو سلامة العقيدة، ومن سلامة العقيدة أن تملك تصورا صحيحا لحقيقة الكون، ولحقيقة الدنيا، ولحقيقة الإنسان، فالإنسان في حقيقته هو المخلوق الأول، وقد خلق للجنة، وإنما جاء إلى الدنيا كي يدفع ثمنها، ليحمل نفسه على معرفة الله أولا، وعلى طاعته ثانيا، وعلى التقرب إليه بالعمل الصالح ثالثا، فحينما يفهم الإنسان أن هذه الدنيا دار ابتلاء، ودار التواء، وليست دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، وجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، يأخذ ليعطى، ويبتلى ليجزى، حينما يوقن أن هذه الحياة الدنيا دار ابتلاء.

 

لذلك فإن المحن التى يعانى منها المسلمون اليوم ليست هى استثناء بل هي القاعدة، لأن الله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته أن يكون بين عباده صراع مستمر من آدم إلى يوم القيامة، صراع بين الحق والباطل، صراع بين الخير والشر، صراع بين العطاء والأخذ، صراع بين العدل والظلم، هذا الصراع من أول الخليقة وإلى نهاية الدوران، فالمحن التي يمر بها المسلمون، والمحن التي يمر بها أهل الحق بشكل عام هي محن ضرورية لتربيتهم ولتمحيصهم، فهى سنة الله في خلقه أن يبتلي عباده المؤمنين، لأنهم مؤهلون، وإن ادعاء النبوة هي ظاهرة تاريخية عُرفت فى مختلف المجتمعات، فمقابل كل نبى أو رسول يُوحى إليه، هناك آلاف الكذابين والدجالين حتى قبل ظهور الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء، وقد انتشرت هذه الظاهرة في شبه جزيرة العرب، وكان أشهر من ادعوا النبوة هو مسيلمة الكذاب، وكان له أتباعا بالآلاف، واستمرت في جميع العصور، وكثرت هذه الظاهرة في المجتمعات العربية فى عصرنا الحديث.

 

إذ ادعى أكثر من شخص أنه نبي يوحى إليه، وآمن بهم عدد من المواطنين، ولقد كانت هناك شخصيات عديدة إدعت النبوة قبل وبعد وفاة النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن بينهم طليحة بن خويلد الأسدى، والأسود العنسى، ومسيلمة بن حبيب الحنفى، وبلغ الأمر تنبؤ امرأة تدعى سجاح الكاهنة، وقد تزوجت من مسيلمة الكذاب فيما بعد، وإن الثابت فى أكثر كتب التراث أن هذه الشخصيات زعمت لنفسها النبوة، ونسبت إليها نسجا ركيكا حاولوا من خلاله تقليد كلام الله تعالى، وأعادوا النظر فى بعض ما فرضه الإسلام، كما حدث مع مسيلمة، الذى منع السجود فى الصلاة، ثم رفع عن أتباعه صلاة الفجر والعشاء، فقد كانت اتهامات وسخريات كثيرة تجدها فى كتب التراث من هذه الشخصيات، وهو أمر طبيعى فى ضوء الاتجاه نحو تشويه وتقبيح ما أتته من أفعال، وإنه من الثابت أن النسبة الغالبة من العرب ارتدت عن الإسلام بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، ولا يستطيع أحد أن يقرر على وجه الدقة هل كان الأمر فى جوهره ارتدادا عن الدين.

 

أم عكس سعيا من جانب شخصيات بارزة داخل عدد من القبائل العربية لمنافسة قريش على ملك العرب بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، وقريش كانت حاضرة بقوة لدى واحد من أبرز مدعى النبوة وهو مسيلمة الحنفى، أو مسيلمة الكذاب ويذكر الرواة أن نعت الكذاب وصف به النبى صلى الله عليه وسلم اثنين من مدعى النبوة، هما مسيلمة بن حبيب، والأسود العنسى، كذاب اليمامة وكذاب صنعاء مثلا تهديدا حقيقيا لدولة الخلافة التى قادها أبوبكر الصديق رضى الله عنه بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، وقد بدأت إرهاصات هذا التهديد فى الظهور أواخر حياة النبى صلى الله عليه وسلم، وهى الفترة التى سطع فيها سؤال مُلحّ لدى العرب جميعا، خصوصا من دخل منهم إلى حظيرة الإسلام، وهو الحكم من بعد محمد لمن؟ وكان ادعاء النبوة عكس فى جانب منه وجها من أوجه الصراع السياسى مع قريش التى كان العرب جميعا يعلمون أنها سوف تستأثر بالأمر من دونهم جميعا بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، لذا ظهر الطابع القبلى بشدة.

 

فى حكايات التراث حول مدعى النبوة، ويقول ابن كثير فى البداية والنهاية، لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت أحياء كثيرة من الأعراب ونجم النفاق بالمدينة وانحاز إلى مسيلمة الكذاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة، والتفت على طليحة الأسدى بنو أسد وطىء وبشر كثير أيضا، وادعى النبوة أيضا كما ادعاها مسيلمة الكذاب، وعظم الخطب واشتدت الحال ونفذ الصديق جيش أسامة فقل الجند عند الصديق فطمعت كثير من الأعراب فى المدينة وراموا أن يهجموا عليها، فجعل الصديق على أنقاب المدينة حراسا يبيتون بالجيوش حولها، وإنه ليس من السهل القبول بفكرة أن من سمع من النبى صلى الله عليه وسلم أو سمع عن النبى صلى الله عليه وسلم خلال رحلة دعوته إلى الإسلام أن يرتد عن الدين بهذه السهولة، أو ينافسه فى النبوة، وليس من المنطقى ولا المعقول أن تجمع الصدفة هذا العدد الكبير من الأنبياء المزيفين فى اللحظة التاريخية الخاصة التى أعقبت وفاة النبى صلى الله عليه وسلم مؤكد أن ثمة أسبابا سياسية.

 

دفعت إلى هذا التمرد الكبير الذى اجتاح القبائل العربية التى أسلمت وأطاعت النبى صلى الله عليه وسلم، وإن كتب التراث ذاتها تذكر أن هؤلاء المرتدين كانوا يصفون أنفسهم بالمسلمين، ما يعنى أن الصراع فى جوهره شكل امتدادا لأحداث السقيفة التى شهدت صراعا مكيا مدنيا على الحكم، والواضح أن الكثير من القبائل العربية لم ترضى عن النتيجة التى تمخضت عنها مفاوضات السقيفة بتولية أبى بكر الصديق رضى الله عنه وجعل الحكم حكرا على قريش فاندلع هذا التمرد السياسى الكبير الذى دمغت كتب التراث رموزه بادعاء النبوة، ومن أمثلة ما روى فى حروب الردة ما سماها بحرب الاخابث وهى ردة عك والاشعرون وخبر طاهر بن أبى هالة ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في روايات سيف، وهو سيف بن عمر التميمي البرجمي السعدى ويقال الضبى، ويقال الأسدي والأسيدى الكوفي وهو صاحب كتابى “الفتوح، والردة” وقال سيف في خبر الاخابث من عك كان أول من انتفض بتهامة العك والاشعرون لما بلغهم.

 

نبأ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقد تجمعوا وأقاموا على الاعلاب وهو طريق الساحل ، فكتب بذلك طاهر إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه ثم سار إليهم مع مسروق العكي حتى إلتقى بهم ، فاقتتلوا، فهزمهم الله وقتلوهم كل قتلة، وأنتنت السبل لقتلهم، وكان مقتلهم فتحا عظيما، وأجاب أبو بكر الصديق رضى الله عنه، الطاهر بن ابى هالة من قبل أن يأتيه كتابه بالفتح وقال ” بلغني كتابك تخبرنى فيه مسيرك واستنفارك مسروقا وقومه إلى الاخابث بالاعلاب، فقد أصبت، فعاجلوا هذا الضرب ولا ترفهوا عنهم، وأقيموا بالاعلاب حتى يأتيكم أمرى ” فسميت تلك الجموع ومن تأشب إليهم إلى اليوم الاخابث، وسمي ذلك الطريق طريق الاخابث، وقال في ذلك طاهر بن أبي هالة “ووالله لولا الله لا شئ غيره، لما فض بالاجراع جمع العثاعث، فلم ترعيني مثل يوم رأيته، بجنب صحار في جموع الاخابث، قتلناهم مابين قنة خامر، إلى القيعة الحمراء ذات النبائث، وفئنا بأموال الاخابث عنوة، جهارا ولم نحفل بتلك الهثاهث.أنبياء مزيفون " الجزء الأول

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى