مقال

سمكة الريحاني

سمكة الريحاني

بقلم/ أحمد عيسى

أمر الشرع الحنيف بالإقلاع عن الإحباط ومزايلة التشاؤم، وحثَّ ورغَّب في الأمل والتفاؤل، وعالجت كتب التراث العربي ظاهرة التطيُّر، وندب الحظّ ورثاءه، وشكاية نكد الأقدار، وبث سوء الطالع، والتسخُّط والتبرُّم والتحسُّر على الحال والمآل.

فهل خَلَتْ حياتُنا المعاصرة من نماذج متشائمة، يزعم أصحابها أنهم كلما أقبلوا على الدنيا ولَّت عنهم مدبرة، وقلَبت لهم ظَهْرَ المِجَنّ، ثم رمتهم عن قوسٍ واحدة بسهام الفتنة والابتلاء، وتناوشتهم برماح المعاكسة والبلاء، والمناكفة والوباء، والتثبيط والمناكدة بحَجْب الحَلّ والدواء؟

وإلى قصتنا..

كان “أحمد” يستمتع بمشاهدة “غزل البنات“، إحدى روائع الراحل نجيب الريحاني، ودار المشهد الشهير بين أمير فن الإلقاء الراحل عبدالوارث عسر، ورائد الكوميديا نجيب الريحاني، حيث تاقت نفْسُ الأخير لأكْلة سمك، فهُرع إلى السوق لينتقي سمكة من بين مئات الأسماك، ثم دفع بها لأَتُون الشَّيِّ، ليُصاب المسكين إثر تناولها بتسمم، ويكتشف أنها من النوع الذي حذَّرت وزارة الصحة من تناوله!

أثار المشهد في نفس “أحمد” كوامن حزن مستعرة، ولواعج مرارة متوارية، فأطرق يستعيد ذكرياته الحَرَّى، ومواقفه الكئيبة، ليوازن بين حظ “الريحاني” العاثر، وحظ نفسه الكابي المنكود الخاسر.

وحين تتابعت زيادات ارتفاعات فواتير المياه بسببٍ ومن دونه، ولداعٍ ومن غيره، رأى “أحمد” أن يُولِّي فراراً من شريحة استهلاك المياه الباهظة، فيعزل نفسه عن باقي جيرانه في العمارة؛ أملاً أن تنخفض حرارة فاتورة المياه، وتكون عليه برداً وسلاماً.

توجَّه “أحمد” بالمستندات اللازمة إلى مرفق المياه، فطلبوا منه أولاً تسديد نصيبه من غرامة مُفتعلة خاصة بالعقار ومخالفة البناء قبل انفصاله عن العمارة فسددها.

طالبوه ثانياً بثمن مقايسة العَدَّاد الجديد، وألزموه أخيراً بدفع فاتورة عالية مقررة ثابتة لحين تركيب العَدَّاد بعد عدة أشهر، ثم بعد تركيب العَدَّاد أَلْفَى “أحمد” فاتورة المياه الجديدة أكثر التهاباً وكُلفةً من أختها القديمة!

اشتكى أحمد بمرفق المياه، فأخبروه بأن الأمر رَهْن بالاستهلاك، وأن العَدَّاد سليم مُعافى، وأن عليه أن يراجع تركيباته وصنابيره ووصلاته، فراجع ذلك كلَّه، ثم توالت عليه الفواتير تدلع له لسانها، حيث كان آخر سبع فواتير للعمارة جميعها أقل من فاتورته وحده منعزلاً!

ثم ولَّى “أحمد” ناظري إطراقته الحَزْنَى شطر فاتورة الكهرباء، التي أنقضت ظهره، وأقضَّت مضجعه، فكانت فاتورة الكهرباء أفحش قيمة وأشد بأساً وسطواً من إيصال المياه.

لم ينعم “أحمد” بفاتورة الكهرباء، ولو لشهرٍ واحد، بسكينة أو مصداقية، فهي حاوية دوماً لخدمة القُمامة وليس هناك قمٌّ ولا قَمَّام، بل لا يوجد كَشْفٌ ولا كشَّاف لقراءة وتسجيل بيانات العَدَّاد.

أخذ “أحمد” على عاتقه أن يسجِّل بنفسه قراءة العَدَّاد كلَّ شهر، فإذا بالفاتورة تبدو أكبر تُخْمة، وأكثر ترهلاً، فترك تسجيله القراءة، فإذا بالفاتورة تربو وتتطاول قيمةً وتختال تحدياً!!

وذات مساءٍ ذهب “أحمد” إلى المسجد مبكراً يشكو بثه وحزنه إلى الله!

وعقب الصلاة..

الإمام: ما بك تبدو كاسف البال منكسر المحيا؟

أحمد: هموم لزمتني.. وديون قهرتني.

الإمام: قُل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة وضَلَع الدَّيْن وقهر الرجال.

أحمد: أفعل إن شاء الله، لكن وجوه المصارف كثيرة.. والموارد جِدّ قليلة.

الإمام: عن عليّ رضي الله عنه: أن مُكاتباً جاءه فقال: إني قد عجزت عن كتابتي فأعني. قال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كان عليك مثل جبل ثبير دَيْناً أداه الله عنك؟ قال: قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك.

أحمد: والغلاء، والبلاء، والوباء، والداء، وهدم المساجد والدُّور، وقصف الأقلام، ووأد الحريات، والقتل صبراً وقهراً وكمداً في الطرقات والساحات والمشافي والأقسام والسجون؟

الإمام: تعني فلسطين والأراضي المحتلة.. لله دَرّ الشوام والمقدسيين، كم عانت بلادهم ولا تزال من ويلاتِ المحتلين المغتصبين؛ ليس لمصائبهم من دون الله كاشفة!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى