مقال

لم يعد للحقيقة مكان في نفوس الفلسطينيين

لم يعد للحقيقة مكان في نفوس الفلسطينيين

كتب/ يوسف المقوسي

 

بسبب التدجين يكاد كل فرد في فلسطين يصاب بعقدة ذنب وعقدة ارتياب. كل واحد يخجل من نفسه بسبب انحيازه الحزبي غير المبرر، والذي يبطن كرها للآخر من غير حزبه. يصاب بالارتياب لأنه يعرف أن الآخر أيضا يستبطن نفس المشاعر ضده.

 كل حزب أو حركة قبيلة موسعة. كل قبيلة جاهزة للقتال في حرب دائمة. الخجل من الذات يقود الى هدنات ويجعل الحرب متقطعة. يخجل من نفسه حين يتذكر بلده. يعقد اتفاقا مع الآخر. كل اتفاق آني. يندم بعد وقت على الاتفاق رغم أنه صار جزءاً من الدستور. يختل مزاجه عند كل اختلال يهدد الدولة. يصاب بالندم ثم بالخرف. يهذي بعشوائية. تزول السياسة. تُصاب الديمقراطية وتلغي نفسها أمام الحزبية.

 

مع حكم مافيا المال والدين، خسر الفلسطيني أمواله. فاتكل على المغتربين. تتوق نفسه للهجرة. لا يبقى في البلد إلا الموتورين والقعدة العاجزين والأطفال والشيوخ من كبار السن. في الداخل تنهشه الطبقة الحاكمة. تأكل كل لحمه نيئاً. تعتبره فريسة. يتصرف العامي كأن لا حول له ولا قوة.

 

قلق دائم. خوف على المصير. خوف من الذات. رعب من شريكه في الوطن. كاليهود الذين أنتجوا عباقرة قبل دولة إسرائيل، في دولتهم صاروا غفلة أغبياء. تملكتهم عقدة ذنب، وتملكهم الارتياب. يرون في كل ما يدور في العالم مؤامرة عليهم. الشعبان أحرقا أنفسهم مرات عديدة في التاريخ. محرقة النازيين ضد اليهود ينتجها الفلسطينيون مرة أخرى ضد أنفسهم الآن. فلسطين مرتع للأغبياء، حكاما ومحكومين، وهؤلاء أنفسهم يكسبون ذكاءً مفرطاً في الهجرة خارج فلسطين . كالصهاينة في إسرائيل، لا يعرف الفلسطينيون كيف يشكلون حكومة في بلدهم. غفلة في بلدهم، وأذكياء في الخارج.

 

تملأ التناقضات روح الفلسطينيين. ينادون السلطة كي تساعدهم في الأزمات، وما أكثرها، لكنهم يفعلون كل شيء لتدمير السلطة. هم دائما يكرهون الأجهزة الأمنية والفساد. لكل جهاز حركته تحميه أو زعامة من نوع ما؛ لكل فساد حركة تحميه، ولا نحاسب أحداً. نسبة كبيرة من الفلسطينيين يعملون لدى السلطات بمختلف أجهزتها البيروقراطية والأمنية، ومع ذلك لا دولة وطنية قائمة ولا انتماء للدولة. الانتماء للحزب أولاً. الانتماء للسلطة عمل ديمقراطي. الانتماء الحزبي لا طوعي ولا اختياري. يفضل الفلسطينيون أن يُغتصبوا سياسياً على أن يكونوا أحرارا. الحرية لديهم ليست ما يتعلق بالتفكير والموقف الفردي المستقل بل النقيض تماماً. كل واحد ينضوي وراء كبش من أكباش الأحزاب والحركات. الجميع يتحدثون وكأنهم ضد الحزبية، لكن الحزبية معشعشة حتى النخاع في كل واحد يعتبر أن الحزبية متفشية في الغير. لو كانت فلسطين كما يقول الفلسطينيون عن أنفسهم وعن “اخوانهم” الفلسطينيين الآخرين، لكانت فلسطين بلداً علمانيا. لديهم كمية كبيرة من الذكاء. يتحوّل ذلك الى نوع من التذاكي والشطارة والتلاعب على الآخرين وعلى الدولة. الفرق كبير بين الشطارة والذكاء. يريدون دولة دون أن يدفعوا الثمن بالجد والعمل والانضباط والإنتاج. يعتمدون على المساعدات أي التسوّل من الغير. بلغوا من الغنج والدلال الى حد اعتبار أن العالم يحتاج إليهم. ستركض الدول الأخرى، العربية وغير العربية، لمساعدتهم لحل مشاكلهم. يجيدون إثارة المشاكل لأنفسهم وللآخرين. يعتبرون أن واجب الآخرين مساعدتهم بل إنقاذهم. هي “فلسطين الرسالة” في نظرهم. فلماذا يتصرفون بعدم مسؤولية بانتظار أن يتحمل العالم المسؤولية عنهم؟ ليس الداخل، إرادة الفلسطينيين، هو الذي يقرر المصير. المخططات الدولية، علاقات ومفاوضات الدول الكبرى والإقليمية، هي التي تقرر. اليسار يقول أن الامبريالية، الشر الأكبر، والشيطان الموجود دائما، هي التي تقرر المصير. هناك إله الخير الذي يمثله الفلسطينيون، وهناك في المقابل إله الشر الذي يتمثل في المخططات الخارجية. لا يمر حديث تلفزيوني عن النظام الدولي إلا وتذكر فيه المخططات الدولية. كلنا يعرف عن المخططات الدولية أكثر مما نعرف عن فلسطين . بارعون في تحليل العالم وفاشلون في إدراك فلسطين . كيف يكون هناك استقلال والوعي كله موجه الى الخارج. يملي الخارج إرادته لأن الفلسطينيين، شاؤوا أم أبوا، اختاروا أن لا تكون لهم إرادة. تركيز الوعي على الخارج أفقدهم الإرادة الذاتية طوعا. يفوتهم دائما أن البلد، أي بلد، مهما كان صغيرا، إذا إتحد وكان مجتمعه متماسكا، وكانت السياسة الداخلية هي التي توحد، لن تستطيع أي قوة خارجية مهما عظمت من السيطرة عليه.!!! اختار الفلسطينيون الاستسلام لسياسات الخارج طوعا. لذلك تشكّل سفارات الدول الكبرى والإقليمية مراكز قوى. ويتصرف سفراؤها وكأنهم رؤوساء آخرون للدولة أو مجلس النواب أو الحكومة، أو لجهاز من أجهزة الدولة، خاصة الأمنية منها والاجتماعية، والتي تأخذ شكل المنظمات غير الحكومية. السياسة في الأصل عمل مشرّف، وهي إدارة شؤون المجتمع. لا مهنة أشرف من إدارة شؤون المجتمع. ففيها منفعة للناس. أما السياسة في فلسطين ، فهي لعبة صراع على السلطة. مجرد صراع وألاعيب وتحالفات داخلية لا تخضع لمبدأ أخلاقي أو هدف اجتماعي. هي نوع من التشاطر وإبراز مفاتن المعنيين أمام سفراء يعملون كمراقبين، يستعرضون جحافل الفلسطينيين وقيمهم وقدرتهم على خدمة مستعرضيهم بكفاءة.

 

لم يعد للحقيقة مكان في نفوس الفلسطينيين. كل الحقائق افتراضية وهمية. حدودها تتسرّب من خارج فلسطين . إذا لم يعد للحقيقة مكان فالخداع هو الأساس. هو في العمق لعبة يجيدها الناس، خاصة أبناء الطبقات العليا. فلسطين موجودة في مركز اللافنت (شرقي المتوسط). واللافنتية لقب للخداع والسمسرة. براعة الفلسطينيين انصبت في اللافنتية. ويسمون ذلك برنامج خدمات. كل ذلك على حساب العمل والإنتاج. حتى الأحزاب تتصرف خارج برامجها وعقيدتها، إذا كان لها عقيدة أو برنامج عمل، لصالح السمسرة للخارج على حساب الشعب الفلسطيني، طبعا. وعندما ترفع ألوية الوطنية والمبادىء الأخلاقية يكون ذلك تظاهراً خادعاً للناس، وفي الحقيقة تسويفا للسمسرة الخارجية. حتى الكهرباء تستورد من الإحتلال . 

 

 التناقض بين الطبقة العليا والطبقات الدنيا واضح جلي للعيان. الفساد يعشعش في الطبقة العليا. الطبقات الدنيا لا يتاح لها ذلك. هي أقرب للحالة التعاونية. تدفعها الحالة الحزبية للتشبه بالطبقة العليا من حزبها. فائدة الحزبية للطبقة العليا هي أنها الايديولوجيا التي تجمع الأغنياء والفقراء في فئة واحدة وتلغي تناقضاتهم. يعرف الفقراء أن أكباش الحركات والأحزاب ومن حولهم يستغلون أبناء حركتهم وحزبهم دون كلل أو استحياء، ودون رحمة أو تعاطف؛ أفراد الطبقة العليا في كل حركة يريدون عامتهم أن يكونوا متسولين عندهم، ورعايا يعتنون هم بهم. أتباع يخضعون لهم. فما أن حدث إنقسام 2016 حتى اتحدت الطبقة العليا للأحزاب. هرّبت أموالها الى الخارج وأحدثت أزمة معيشية لم يشهدها البلد في تاريخه. بالنسبة للطبقة العليا، لا يجوز للفقراء أن يخرجوا من قيودهم الحزبية وتبعيتهم لأكباش الحركة. إذا حاولوا ذلك، فعليهم تقع العقوبة. هي في هذه الحالة أزمة مريعة، انهيار مالي، سقوط الى الهاوية. بلد لا من يديره أو يسوسه، وحكومة لا تُشكّل. فراغ لا في الحكومة فقط بل في جيوب الناس وبطونهم. سكوت مطبق عن الفساد، وكأنه اختفى. نشرات الأخبار المسائية أوراق نعوة. كأن البلد أمام مراسم الدفن. فضيحة وراء فضيحة. أزمة تتلوها أزمة عن فقدان مواد أساسية للمعيشة. همُّ الفلسطينيين اليومي كيف يتسولون.

 قروضهم ومديوناتهم للبنوك ومؤسسات الإقراض الربحية أصبحت هاجسهم الوحيد .

   مسموح للناس أن يجوعوا، ممنوع على المصارف أن تفلس. شعب برمته يُعاقب. يجب أن يبقى خاضعا وإلا الفقر بالمصادرة، والجوع بالإفقار، وانهيار نفسي غير مسبوق. يشعر كل فلسطيني ني (ما عدا الأكباش وحاشيتهم) أنه مكسور من الداخل.

نجحوا في تدجين الناس. أهانوهم، وأذلوهم، واقتلعوا كرامتهم من نفوسهم. يردون إليهم بعض الكرامة بانتصار افتراضي في فلسطين. شعور فارغ بالنصر. نفس فارغة تمتلئ نصرا كاذباً. ترى الخراب، بل الهزيمة في فلسطين، وتحسب ذلك انتصارا. ترى البلد مدمرة، وعدداً كبيرا من الإصابات،والشهداء وجوعا يداهم أحشاءك، وتحسب أنك تنتصر .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى