مقال

هارون الرشيد وحادثة البرامكة “جزء 10”

هارون الرشيد وحادثة البرامكة “جزء 10”

بقلم / محمــــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء العاشر مع هارون الرشيد وحادثة البرامكة، إلى أن وافى بهم الرقة، فأمر الرشيد بقتل أنس بن أبي شيخ يوم قدم الرقة، وتولى قتله إبراهيم بن عثمان بن نهيك، ثم صلب، وحبس يحيى بن خالد مع الفضل ومحمد في دير القائم، وجعل عليهم حفظة من قبل مسرور الخادم وهرثمة بن أعين، ولم يفرق بينهم وبين عدة من خدمهم، ولا ما يحتاجون إليه، وصير معهم زبيدة بنت منير أم الفضل ودنانير جارية يحيى وعدة من خدمهم وجواريهم، ولم تزل حالهم سهلة إلى أن سخط الرشيد على عبد الملك بن صالح، فعمهم بالتثقيف بسخطه، وجدد له ولهم التهمة عند الرشيد، فضيق عليهم، وقد قتل جعفر بن يحيى في ليلة السبت أول ليلة من شهر صفر سنة مائة وسبع وثمانون من الهجرة، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة، وقد قيل أن أحد أسباب حادثة البرامكة هي العباسة زوجة جعفر البرمكي.

 

والعباسة هي أخت الخليفة هارون الرشيد، وكانت أديبة شاعرة، ومن ربات الفضل والأدب والجمال، فهي من أجمل النساء وأطرفهن وأكملهن فضلا وعقلا وصيانة، وكان في جبهتها اتساع يشين وجهها فاتخذت عصابة مكللة بالجوهر، لتستر جبينها، وهي أول من اتخذها، وقد روت بعض الكتب روايات توثق قصة زواج العباسة أخت الرشيد من جعفر البرمكي، وأن هذا الزواج أحد أسباب نكبة البرامكة، وروى المسعودي أن العباسة هي من أوصلت جعفر إلى النهاية المشؤومة، ويشير منير العجلاني في كتابه عبقرية الإسلام بقوله وتغلب جعفر في النهاية على أمر الرشيد، الذي كان يحبه حبا جما حتى زوجه أخته، وكان الرشيد يحب مجلسهما كثيرا، ولكن الطبري في كتابه الرسل والملوك وابن حزم في جمهرة أنساب العرب وابن خلدون في مقدمته ينفون خبر زواج العباسة بجعفر.

 

ويقول ابن خلدون وأين يطلب الصون والعفاف إذا ذهب عنها، أو أين توجد الطهارة والذكاء إذا فقدا من بيتها، أو كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحيى وتدنس شرفها العربي بولي من موالي العجم، وهكذا استمر يحيى بن خالد وإبنه الفضل محبوسين حتى ماتا بالرقة، حيث مات يحيى في شهر محرم سنة مائة وتسعون من الهجرة، فجأة من غير علة، وصلى عليه ابنه الفضل ودفن في شاطيء الفرات، وأما الفضل فقد مات في شهر محرم سنة مائة وثلاثة وتسعون من الهجرة، قبل وفاة الرشيد بخمسة أشهر، وهو ابن خمس وأربعين سنة، وصلى عليه اخوانه في القصر الذي كانوا فيه قبل إخراجه، ثم أخرج فصلى الناس على جنازته، أما بالنسبة لابني يحيى الآخران وهما محمد وموسى، فقد بقيا في الحبس بالرقة حتى تولى الخلافة محمد الأمين، فأطلق سراحهما، وبينما التحق محمد بالمأمون.

 

وظل موسى يقاتل في صفوف الأمين، ولم يفارقه حتى قتل، ثم انضم إلى هرثمة واجتمع معه على حرب أبي السرايا، وخاض معه معارك كثيرة، فلما ورد المأمون العراق صار إليه فأحسن إليه وقدمه وانبسط إليه في المشورة والرأي حتى غلب عليه، وإن نظرا للدور الكبير الذي لعبه البرامكة في الدولة العباسية، فإن إيقاع الرشيد بهم ترك فراغا كبيرا في معظم إدارات الدولة، قال الفضل بن مروان إن أمور البريد والأخبار في أيام الرشيد كانت مهملة، وإن مسرورا الخادم كان يتقلد البريد والخرائط، وأن الرشيد توفي وعندهم أربعة آلاف خريطة، ويقول المسعودي إن الرشيد دفع خاتم الخلافة بعد إيقاعهم بهم أي البرامكة إلى علي بن يقطين، وغلب عليه الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح إلى أن مات واختلت أموره بعد البرامكة، وبان للناس قبح تدبيره وسوء سياسته، وكان الرشيد كثيرا ما يقول حملونا على نصائحنا وكفاتنا وأوهمونا أنهم يقومون مقامهم، فلما صرنا إلى ما أرادوا منا لم يغنوا عنا شيئا.

 

وهكذا كان للبرامكة فضل كبير في تنشيط الترجمة في العصر العباسي، فقد بذلوا الجهود الكبيرة لتشجيع نقل العلوم القديمة الرومانية واليونانية والفارسية والهندية إلى اللغة العربية، ومن ذلك طلب يحيى بن خالد إلى بطريك الإسكندرية أن يترجم في الزراعة كتابا عن الرومية أي اللاتينية، وقد ترجمه وكان يحيى البرمكي أول من عُني بتفسير كتاب المجسطي وإخراجه للعربية، ففسره جماعة من المترجمين فلم يتقنوه، ولم يرضيه ذلك فندب لتفسيره أبا حسان، وسلم صاحب بيت الحكمة فأتقناه، واجتهدا في تصحيحه بعد أن أحضرا النقلة الموجودين، فاختبرا نقلهم وأخذا بأفصحه وأصحه، وكما اعتنى البرامكة عناية واسعة بترجمة التراث الفارسي، وهناك جيل كبير نهض في عصرهم والعصر الذي تلاهم بهذه الترجمة، منهم آل نوبخت وعلى رأسهم الفضل بن نوبخت الذي أكثر من ترجمة كتب الفلك، والفضل بن سهل الذي ترجم ليحيى البرمكي كتابا من الفارسية إلى العربية فأعجب بفهمه وجودة عبارته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى