القصة والأدب

ما بين روحانية الشرق ومادية الغرب..قراءة نقدية لرواية “عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم.

ما بين روحانية الشرق ومادية الغرب..قراءة نقدية لرواية “عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم.

 

كتبت: عزة أحمد حسني

 

بصدور رواية “عصفور من الشرق” عام 1938 رسخ “توفيق الحكيم” إبداعه في المسرح الذهني بقدرته المذهلة على الوصف والتصوير، حيث تكون شخصيات الرواية عبارة عن رموز يدل كل منها على شيء معين.

 

ينتقل “محسن” بطل الرواية – القناع السردي لتوفيق الحكيم- كالعصفور من مكان إلى مكان في أنحاء باريس؛ عاصمة النور والجمال و “فاترينة الدنيا”، بقبعته السوداء ومعطفه الأسود ورباط عنقه الأسود وحذائه الأسود؛ ذلك الفتى الشرقي الذي يعيش في باريس، يطوف بشوارعها ومقاهيها ومكاتبها ينقر كالعصفور بحثا عن فلسفة، يتطلع “محسن” إلى السمو فوق الواقع الخشن والحياة المادية الغليظة بحثا عن الروح التي تسمو فوق الجسد، والقلب الذي هو أسمى من العقل، والتغلب على ثنائية شرق غرب التي رأى أنها يمكن أن تنقذ البشرية من حسابات الربح والخسارة وكوارث الصراعات التي لا ترحم والحروب المدمرة.

 

تبعث “عصفور من الشرق” برسالة فنية تقول: يوم يلتقي الشرق والغرب سيكون ذلك النور الذي يضيء العالم وتصبح الحضارة مسارها الصحيح.

 

الرواية تتناول موضوع العلاقة بين الشرق والغرب، الشرق المتمثل في “محسن” المصري المغترب في فرنسا، والغرب المتمثل في “سوزي” وعلاقة الحب الفاشلة بين الطرفين.

 

وثنائية الشرق والغرب هي الجزء المحوري الذي تدور حوله أحداث الرواية، فعند مطالعتنا للعنوان نرى أنها تدل على شيء ما، فكلمة “عصفور” مثلما تدل على الحلم والحرية، فهو أيضا مخلوق ضعيف يسهل اصطياده وكسر جناحه، وربما أراد الكاتب أن يقدم هذا العنوان لكي يلفت انتباه القراء إلى اكتشاف ما وراء كتابته لهذه الرواية بين التسلط والانهزامية.

 

العلاقة هنا أعمق من مجرد قصة حب، فهمي تحوي متناقضات كانت واضحة جدا في حوارات “محسن” مع صديقه الروسي “إيفان”.. ” عندما ذكر والد أندريه بأن لكل عصر عبيده، “تذكرت نفسي وأنا أعمل في شركة طوال النهار، ولا أعود إلى البيت إلا في الظلام، لم أعد أرى أهلي، لم أعد أمارس أي نشاط بشري، من العمل إلى النوم، حتى فقدت الإحساس بوجودي، فقدت أي شعور روحاني! وهذا هو أحد أوجه العبودية الجديدة في مجتمعنا” هنا يظهر نوع من تسلط الطبقة الرأسمالية على الطبقة العاملة، ويشير إلى عودة “السيد والعبد” في ثوب جديد ومسمى جديد، وقد يرمز ذلك إلى سيادة أصحاب النفوذ “الغرب” واستعبادهم “للشرق” تحت مسميات ووعود وهمية، فلم يعد هناك شرق، إنما هي غابة على أشجارها قردة، تلبس زي الغرب، على غير نظام ولا ترتيب ولا فهم ولا إدراك، كما قال “محسن” واصفا حال الشرق الآن “لقد كانت الحقنة شديدة الفعل والأثر… نعم، ولا أحد يدري هل أوربا حقنت الشرق بأفيون ممزوج بسم ناقع، سرى – وما زال يسري- في شرايينه يقتل كل بذور المثل العليا الشقية في النفوس؛ فشبان الشرق اليوم –عندما أرادوا أن يتخذوا لهم مثالا للرجولة والبطولة- لم يتجهوا شطر “غاندي” ولكنهم اتجهوا بعيون؛ كأنها منومة تنويم المغنطيس شطر “موسوليني” وما بين تسلط الغرب وانهزام الشرق، أصبح الشرق بدعة الغرب، فعلى الرغم من مكانة الشرق تاريخيا وحضاريا، إلا أن الذي يعيد إنتاجه بأدواته ومناهجه ومصالحه هو الغرب.

 

لقد قدم الكاتب مشهدا ذا صورة واضحة من خلال رموز ودلالات عن الواقع التسلطي والانهزامي الأليم الذي يحدث بين المجتمعات من خلال عرضه لهذه الرواية.

الرواية يغلب فيها الجانب الفلسفي ويظهر بين حوار “محسن” وصديقه “إيفان” ،ولا تخلو من الجانب الفكاهي الذي اعتدنا عليه من الكاتب.

 

الحبكة لم تكتمل في بعض المشاهد، وكذلك ازدحام الرواية بالكثير من الشخصيات الثانوية دون هدف واضح بالنسبة لي، وتركت لدي الكثير من التساؤلات، فمثلا؛ ادراك محسن أن حبيبته ارتبطت به من أجل مصلحة ما، هل كان ذلك صحيحا مع اختيارها هي للصمت حلا؟، وما معنى الخطاب المكون من بضع كلمات غير صريحة الذي أرسلته إليه بعض خطابه الطويل، فظهر لي من خلال ذلك سطحية الأحداث وبساطتها، وكذلك تناقض شخصية “البطل” في حديثه عن روحانيات الشرق، ومدى إيمانه وتدينه والتزامه بالصلاة وتعاليم دينه، وعلى الجانب الآخر يدخل في علاقة محرمة مع فتاة، ويسرد تفاصيلها دون أي انتباه أنها من المحرمات في دينه، وأيضا الرواية سردية، يحكي فيها “توفيق الحكيم” مذكراته، عنصر الخيال لم يكتمل فيها مما جعلها أقرب للسيرة الذاتية، وأحاديثه التي تصل إليك وكأنها مقالات فكرية.

 

لغة الرواية سلسة وبليغة، وأسلوبها سهل، فضلا عن الحوارات التأملية البارعة، مع شيء من الغموض لا يناسب إلا موسوعة ثقافية ملهمة ك “توفيق الحكيم”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى