مقال

الحجة قوية بصاحبها القوي. 

جريدة الأضواء

الحجة قوية بصاحبها القوي.

كتب / يوسف المقوسي

 

التراث هو ما مضى، ما تراكم عبر الدهور من أفكار وسلوكيات ومواقف صارت لنا هادياً في أعمالنا وممارساتنا وأفكارنا. التراث بعدما يحدث للمرة الأولى، يصبح له نوع من القدسية، خاصة عندما يكون مكتوباً. بالطبع تتفاوت أنواع التراث من الفقه، الى الكتاب المقدس، الى العلم الطبيعي، الى مختلف المعاملات التجارية، والعقود، وطرائق الطعام، واللباس، والبناء، الخ… تتفاوت هذه جميعاً في تأثيرها علينا. يستعمل البعض تعبير الثقافة وكأنها التراث. البعض يجعل التراث مقتصراً على الأمور الفكرية والمعنوية، فتسمى ثقافة. والحضارة هي ما شمل الأمور المادية.

 

السياسة تعامل مع الحاضر. كثيراً ما تواجه أحداثاً لا تستطيع قياسها على حوادث التراث وتقليدها، فتضطر للابتداع وتجاوز الماضي والخروج على التراث. السياسة في بعض نواحيها صنع للمستقبل. يجب أن يختلف المستقبل عن الماضي والا تجمّد المجتمع وامتنع عن التطوّر. المجتمعات التي لا تتطوّر تتجمّد مكانها. تتوقف عن التطوّر. يسبقها غيرها بتقدمه الى الأمام. يستخدم أنواعاً جديدة من الأفكار يستقوي بها. يسيطر على ما عداه من شعوب قريبة أو بعيدة. يتولد فارق القوة من التقدم والتجدد لدى بعض الشعوب التي تتفوّق على الغير. يؤدي فارق القوة الى الاحتلال وما يتبعه من نهب للموارد واستغلال البشر واستهانة بالشرف وإذلال للكرامة. حتى عندما يزول الاحتلال المباشر تبقى الهيمنة، تُسمى الامبريالية، وهي ممارسة الاستعمار أو بعضه دون احتلال مباشر. مع تقدم أصحاب الامبريالية، يصبح أسلوب حياتهم مغريا، ويصبح

مصدراً للتقليد. أهالي المستعمرات أو الخاضعة للهيمنة يقلدون القوى المسيطرة والمهيمنة في أفكارهم وسلوكهم في الوقت الذي يقلدون تراثهم. يعتقد أصحاب الهيمنة الامبريالية أن مصالحهم المادية والسياسية تصبح أكثر أماناً عندما يقلدهم الآخرون. يدري أو لا يدري الأغيار أن التحرر الوطني لا يحررهم من السيطرة أو الهيمنة أو من الخضوع بشتى أشكاله. يريدون تغيير أو تجديد التراث كي يصبح أكثر مطواعية لمشاريعهم المادية والمعنوية. يتنافسون مع القوى الامبريالية على “إحياء” التراث. قليلاً ما يعترف هؤلاء وأولئك أن في إحياء التراث تجديداً وتغييراً. الصراع على التراث في معظم الأحيان ليس صراعاً على حقيقة التاريخ، بل هو صراع على الحاضر والمصالح الراهنة. يصبح تخيّل التراث أمراً ملحاً. فارق القوة يمنح أصحابه قوة أكبر على التخيّل. يبرع أصحاب التراث الأصليون، السكان الأصليون، على المحافظة عليه. يفوتهم خلال ذلك أن ما يحافظون عليه يتغيّر بين أيديهم وفي عقولهم. تغور أحاسيس ومشاعر المسيطر عليهم في خضم الصراع بين “المحافظين” المحليين “والمجددين” الامبرياليين. يكاد يغيب في خضم هذا الصراع المصالح الحقيقية للشعوب المغلوبة.

 

 

موضوع الاستشراق جزء من هذا الصراع. هو مثل رأس جانوس، له وجهان، احدهما ايجابي والآخر سلبي. أجهزة الامبريالية هي الأقوى بما لديها من مراكز بحث وأجهزة تفكير. وهي موضوعية كي تستطيع فهم المادة التي بين أيديها، ولو كانت غير حيادية تجاهها. أحياناً، وربما غالبا، ما يغيب الوجه الموضوعي لجانوس ولا يبقى في مخيلتنا سوى الوجه المنحاز. عندما يعم ذلك تلجأ مجتمعاتنا الى التقوقع حول ذاتها حرصاُ منها على دينها وثقافتها. وهنا يقع مثقفونا في حبائل الأصولية. تصبح محافظة التفكير مزاجية الدين. يصيبها رهاب التجديد، وعندها ينطبق عليها لقب المجتمعات التقليدية.

ما يغيب عن مثقفينا ناقدي الاستشراق، وبعضهم شرس الموقف، أن فارق القوة هو ما يقرر سيطرة الاستشراق لا مقارعة الحجة بالحجة. فارق القوة ينتج أقوياء وضعفاء. ما لا يدركه أصحابنا الناقدون للاستشراق أن محاججة الأقوياء لا تجدي لأنهم سوف يستمرون في تقديم الدراسات التي تفيد مواقعهم. لن نستطيع تنحية الاستشراق جانباً إلا بمعالجة أسباب الضعف عندنا، والاتجاه نحو هذه الأسباب والأخذ بها كي تصبح حججنا أقوى. الحجة قوية بصاحبها القوي.

 

ألا بلغت أنظارنا ندرة مراكز الأبحاث وأوعية التفكير، وأن أفضل الكتب التراثية تحقيقاً هي الكتب التي حققها أو أشرف عليها مستشرقون، وأن الجامعات لدينا تتراجع فيها النوعية تحت عبء الكمية، وأن من بين أفضل الجامعات لدينا تلك التي أسسها وما يزال يديرها أوروبيون وأميركيون، وأن أفضل أساتذتنا هم على الأغلب الذين يدرّسون في الخارج أو في جامعات يشرف عليها غربيون، وأن أفضل تلامذتنا هم الذين يدرسون في الخارج، وأن أفضل دور النشر هي التي تمثّل شركات في الخارج، وأن جميع من نالوا جائزة نوبل إلا واحداً، هم أساتذة في الخارج.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى