غير مصنف

الدكروري يكتب عن الصانع المتقن ” جزء 5″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الصانع المتقن ” جزء 5″
بقلم / محمـــد الدكـــروري

فما أجمل أن يتخلق المجتمع بهذا الخلق القويم النبيل خلق إتقان العمل وجودته، حتى يتحقق الأمن والرخاء والسلام، وإن للمتقن عند الله والناس الثواب، وقيل أنه تعطلت ماكينة ضخمة متطورة في سفينة تجارية كبيرة، فقام أصحاب السفينة بإحضار خبراء لإصلاحها واحدا وراء الآخر، ولكن دون جدوى ولا نتيجة ولعدة أيام، ولم يعرف أحد من هؤلاء الحرفيين ما هي العلة في عطل ذلك المحرك الضخم المطور، وبالطبع فإن تعطل مثل هذه السفينة الضخمة عن العمل يؤدي إلى خسارة كبيرة يوميا لذا قام أصحاب السفينة باستدعاء خبير قد تجاوز الستين من العمر، والذي قضى عمره في إصلاح محركات السفن الضخمة، وجاء معه بحقيبة كبيرة مليئة بالعدد والأدوات، وكان أول ما فعله عند وصوله مباشرة هو تفحصه للماكينة الضخمة بدقة من أعلاها لأسفلها، وكان هناك اثنان من ملاك السفينة يتابعون هذا الخبير العالمي بشغف.

ويتمنون في أنفسهم أن يعرف العلة في عطل ذلك المحرك العنيد العاصي على الإصلاح، وبعد أن انتهى هذا الرجل من تفحص الماكينة أو المحرك اتجه إلى حقيبة معداته وأخرج منها مطرقة صغيرة وطقطق برقة على مكان معين من سطح المحرك فعلى صوته بالحركة مجلجلا، لقد دار المحرك الضخم العنيد بعد عناء، وبعد تعطل لمدة أسبوعين كاملين عن العمل، خسر خلاله أصحاب السفينة العملاقة، الكثير والكثير، قام ذلك الخبير بإصلاح ذلك المحرك بهدوء بوضع المطرقة في مكانها وتأكد ملاك السفينة من إصلاح ذلك المحرك بعد أن قامت تلك السفينة برحلة تجارية تجريبية قصيرة نسبيا في عرض البحر بنجاح، وبعد أسبوع استلموا فاتورة من ذلك الخبير المخضرم بعشرة آلاف دولار قيمة الإصلاح، فصرخ ملاك السفينة العملاقة قائلين بينهم وبين أنفسهم ماذا فعل هذا الشائب العجوز ليطلب هذا المبلغ الضخم؟

وقاموا على الفور بإرسال رسالة له يطلبون فيها فاتورة مفصلة عن تكاليف الإصلاح؟ فأرسل لهم فاتورة كتب فيها تفاصيل التكاليف الكشف على المحرك خمسمائة دولار، الضرب بالمطرقة على موضع الخلل عشرة دولارات، ومعرفة مكان الطرق بالمطرقة الباقي والمجموع عشرة آلاف دولار أمريكي فقط لا غير، هذا هو ثمن الخبرة النادرة والهمة العالية، والتي قد يضطر بعض أصحاب رؤوس الأموال إلى دفع الكثير والكثير ليستفيدوا من تلك الخبرة النادرة فيما يخصهم، فإتقان العمل مطلوب في كل شيء، وأولى الأعمال بالإتقان هو العمل الذي يُعرض على رب العالمين، ونحن نعلم أنه إذا قيل لأحد الموظفين عملك هذا سيُعرض على المسؤول الفلاني، فسيبذل قصارى جُهده في إخراجه في أعلى معايير الدقة، فكيف ولله المثل الأعلى إذا كان العمل سيُعرض على رب العالمين؟ أليس حريّا بنا أن نكون فيه أكثر إتقانا؟

والإتقان صفة من صفات رب العالمين فهو الذي أتقن كل شيء خلقه وأحسن كل شيء أبدعه، وقال أحد السلف لا يكن همّ أحدكم في كثرة العمل، ولكن ليكن همه في إحكامه وتحسينه، فإن أحدكم قد يصلي وهو يعصي الله في صلاته، وقد يصوم وهو يعصي الله في صيامه، فكل الناس يؤدون أعمالهم، ولكن الفارق بينهم يكون في درجة إتقانهم لأعمالهم، ولأن العبرة ليست في أداء العمل فقط، ولكن في الصفة التي أدّي بها العمل، فالمسلم مطالب بالإتقان في كل عمل تعبدي أو سلوكي أو معاشي، لأن كل عمل يقوم به المسلم بنيّة العبادة هو عمل مقبول عند الله يجازى عليه سواء كان عمل دنيا أم آخرة، فقال الله تعالى في سورة الأنعام “قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين” والعمل الذي يقوم به الإنسان أمانة والله سائله عنه يوم القيامة، فكم من مبنى انهار.

وكم من جسر تصدّع بسبب عدم الإتقان الذي ارتكبه المهندس والمقاول، وكم من أرواح فقدت وراحت هدرا بسبب عدم إتقان الطبيب، وكم من خسائر فادحة وإسرافات فاضحة بسبب عدم إتقان العمال لأعمالهم، وموت ضمائرهم، فإتقان العمل يعتبر من أهم الأسباب الموصلة لنهضة الأمم ونجاحها وفلاحها، فالعمل حتى لو ارتبط بالكدح والعمل والتخطيط والمتابعة، إلا أنّه لن يأتي ثماره إلا إذا أتي به على الوجه المطلوب، وقد صنع الله تعالى الكون بما فيه بإتقان، وأنزل آدم إلى الأرض واستخلفه فيها ليقوم بإعمارها وإصلاحها ونهاه عن الفساد فيها، كما أوجب الله تعالى على الإنسان الإحسان، وقيل أنه كان هناك نجار تقدم به العمر، وطلب من رئيسه في العمل وصاحب المؤسسة أن يحيله على التقاعد ليعيش بقية عمره مع زوجته وأولاده، فرفض صاحب العمل طلب النجار ورغبه بزيادة مرتبه إلا أن النجار أصر على طلبه.

فقال له صاحب العمل إن لي عندك رجاء أخيرا وهو أن تبني منزلا أخيرا وأخبره أنه لن يكلفه بعمل آخر ثم يحال للتقاعد فوافق النجار على مضض وبدأ النجار العمل ولعلمه أن هذا البيت هو الأخير فلم يحسن الصنعة واستخدم موادا رديئة الصنع وأسرع في الإنجاز دون الجودة المطلوبة، وكانت الطريقة التي أدى بها العمل نهاية غير سليمة لعمر طويل من الإنجاز والتميز والإبداع وعندما انتهى النجار العجوز من البناء سلم صاحب العمل مفاتيح المنزل الجديد وطلب السماح له بالرحيل، إلا أن صاحب العمل استوقفه وقال له إن هذا المنزل هو هديتي لك نظير سنين عملك مع المؤسسة فآمل أن تقبله مني فصعق النجار من المفاجأة لأنه لو علم أنه يبني منزل العمر لما توانى في الإخلاص في الأداء والإتقان في العمل، فلقد ندم المقاول كثيرا على تفريطه لأنه لو علم أنه يبني منزلا لنفسه لما تردد أن يضع فيه كامل عصارة خبرته، وأفضل الأدوات والمعدات، ولأعطاه ما يستحقه من وقت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى