مقال

الدكروري يكتب عن الإمام السخاوي ” جزء 4″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام السخاوي ” جزء 4″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

فبعد وفاة شيخه ابن حجر، ارتحل السخاوي إلى عدد كبير من البلدان لتحصيل العلم، ففي مصر سافر إلى دمياط والمنصورة والرشيد، وغيرهم من البلدان ثم رحل إلى مكة والمدينة ودمشق وحلب وبيت المقدس ونابلس، وسمع في هذه البلدان لعدد كبير من علمائها وأخذ عنهم، وكان السخاوي يومئذ في الثانية والعشرين من عمره ولكنه كان رغم حداثته قد برز في كثير من العلوم التي تلقاها وكان قد استأثر في هذه الأعوام الطويلة التي قضاها إلى جانب ابن حجر بكثير من علمه ومعارفه، وتأثر أعظم تأثير بأساليبه ومناهجه بل قيل إن السخاوي كان بعد ابن حجر، مستودع علمه وتراثه، وكان أشد تلاميذه تمثيلا لمدرسته بل كان بعد شيخه زعيم هذه المدرسة وأستاذها القوي يرفع لواءها ويحمل مناهجها حتى خاتمة القرن التاسع وقد أشار ابن حجر نفسه في أواخر أيامه إلى تلك الحقيقة، وكثيرا ما وصف السخاوي بأنه أمثل جماعته أو ممثل جماعته.

 

وهكذا سافر السخاوي عقب وفاة أستاذه إلى دمياط ودرس على شيوخها حينا ثم سافر مع والدته بحرا إلى مكة ليؤدي فريضة الحج وانتهز هذه الفرصة فدرس على شيوخ مكة والمدينة، وطاف بالبقاع والمشاهد المقدسة كلها ثم عاد إلى مصر، وسافر إلى الإسكندرية وقرأ بها مدى حين وزار معظم عواصم الوجه البحري وقرأ على شيوخها الأعلام جميعا، وحصل كثيرا من الفوائد والمعارف، ثم رأى أن يقوم برحلة إلى الشام ليزور معاهدها، ويتعرف بشيوخها فسافر إلى فلسطين وطاف بيت المقدس والخليل ونابلس ثم قصد إلى الشام، وزار دمشق وحمص وحماه، ثم استقر حينا في حلب وكل ذلك وهو يدرس ويقرأ على أعلام هذه العواصم ويقول السخاوي إنه “اجتمع له في هذه الرحلة من الروايات بالسماع والقراءة ما يفوق الوصف” ويبدو من تعداده للكتب التي درسها وقرأها في هذا الطواف، إنه كان يعنى بدراسة الحديث والقراءة والنحو والفقه وعلوم البلاغة والتصوّف، ولم يعين السخاوي لنا تواريخ تنقلاته في هذه الرحلة.

 

ولكن الظاهر إنها استغرقت بضعة أعوام، ولما عاد السخاوي إلى مصر، عكف على التدريس، ولا سيما تدريس الحديث، أحيانا بمنزله، وأحيانا بخانقاه وهو معهد الصوفية المعروف بسعيد السعداء وكذا انتدب في أوقات مختلفة للتدريس في أعظم مدارس القاهرة كدار الحديث الكاملية والصرغتمشية، والظاهرية، والبرقوقية، والفاضلية وغيرها، وذاع صيته وأقبل عليه الطلاب من كل صوب، وفي سنة ثماني مائة وسبعين من الهجرة، سافر مع أسرته وكان قد تزوج يومئذ ورزق بعض الأولاد كما يفهم ذلك من إشارته إلى مولد ولده أحمد، ومع والده وأكبر أخويه إلى الحج للمرة الثانية وصحبه أيضا في تلك الرحلة صديقه وأستاذه النجم بن فهد الهاشمي وكان من أعلام العصر، ودرس بمكة مدى حين، وقرأ بالمسجد الحرام بعض تصانيفه وتصانيف غيره، ولما عاد إلى القاهرة استأنف دروسه وإملاءاته وتبوأ مركز الزعامة يومئذ في علم الحديث.

 

وشغل فيه نفس المركز الذي كان يشغله فيه أستاذه ابن حجر قبل ذلك بثلاثين عاما، ثم حج السخاوي للمرة الثالثة في سنة ثماني مائة وخمس وثمانين من الهجرة، وقضى بمكة عاما في التدريس والدرس ثم حج سنة ثماني مائة وسبع وثمانين من الهجرة، وقضى حين في الدرس والإقراء وحج للمرة الخامسة في سنة ثماني مائة واثنين وتسعين من الهجرة، وقضى عاما آخر في الدرس والإقراء ثم حج في سنة ثماني مائة وأربع وتسعين من الهجرة، وقرأ الكثير من دروسه وتصانيفه، وغدت مكة وطنا ثانيا له وكتب بها كثيرا من مؤلفاته، ولما عاد السخاوي إلى القاهرة في سنة ثماني مائة وثماني وتسعين من الهجرة، استقر بمنزله، وأبى الدرس والإقراء في المعاهد والحلقات العامة وذلك ترفعا عن مزاحمة الأدعياء حسب قوله، وترك الإفتاء أيضا واكتفى بالإقراء في منزله لخاصة تلاميذه وكان السخاوي قد اشرف يومئذ على السبعين من عمره.

 

ولكنه استمر منكبا على الدرس والتأليف وكانت قد انتهت إليه الرياسة يومئذ في معظم علوم عصره، ولا سيما الحديث، حتى قيل أنه فاق شيخه ابن حجر في ميدانه، وانتهى إليه فن الجرح والتعذيب، حتى قيل لم يبلغ أحد مكانته فيه منذ الحافظ الذهبي وكانت شهرته قد تعدت حدود مصر منذ بعيد وذاعت في أنحاء العالم الإسلامي، ولا سيما في الشام والحجاز حيث تلقى عليه مئات العلماء والطلاب، ولبث السخاوي رغم مكانته العلمية الرفيعة ونفوذه القوي بعيدا عن ميدان السياسة ودسائس البلاط والمناصب الرسمية واقترح عليه صديقه الأمير يشبك الداوادار أن يقرأ التاريخ بمجلس السلطان الظاهر خشقدم فأبى ثم عرض عليه أن يتولى القضاء بعد ذلك، فاعتذر وأشار بتعيين خصمه ومنافسه السيوطي رغم ما كان بينهما من الخصومات الأدبية الشهيرة، ومن أشهر كتب الإمام السخاوي هو كتاب التبر المسبوك في ذيل السلوك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى