مقال

الدكروري يكتب عن المزارع المجد ” جزء 6″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن المزارع المجد ” جزء 6″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

وقد ازداد اهتمام المسلمين بالزراعة بعد أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية واستقرت أمورها، ويسروا كل السبل لامتلاك الأراضي وتعميرها وزرعها، عملا بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم “مَن أحيا أرضا ميتة فهي له” وأضحى الاهتمام بالزراعة من واجب الأمراء والحكام، وليس الأفراد فحسب وذلك لأن هؤلاء الأمراء كانوا يدركون تماما العلاقة بين الازدهار الزراعي، وزيادة الخراج الذي يعد أهم مصادر بيت المال، كما كانوا يدركون تماما العلاقة القوية بين حالة الزرع وبين الوارد، واهتموا بإصلاح وسائل الري وتنظيفها، وبنوا السدود وشقوا القنوات والأنهار التي لا يُحصى عددها، لدرجة أن مدينة كالبصرة وحدها كان بها ما يزيد على مائة ألف نهر، يجري في جميعها السميرات، ولكل نهر منها اسم ينسب إلى صاحبه أو الناحية التي صب فيها الماء، وأقاموا الجسور والقناطر، كما أقاموا السّكور على الأنهار للتحكم في كمية المياه.

 

وبذلوا في سبيل ذلك أموالا طائلة، واستخدموا لها عددا كبيرا من العمال، حتى ذكر أن الحجاج بن يوسف الثقفي أراد أن يستكمل نهر سعد في نواحي الأنبار، وكان دهاقينها قد سألوا سعد بن أبي وقاص من قبل أن يحفره لهم، فجمع الرجال لذلك، فحفروا حتى انتهوا إلى جبل، فلم يُمكنهم شقه وتركوه فجمع الحجاج الفعلة من ناحية، وقال لقوّامه انظروا إلى قيمة ما يأكل الرجل من الحفارين في اليوم، فإن كان وزنه مثل ما يقلع، فلا تمتنعوا عن الحفر، وأنفقوا عليه حتى استتموه، وهذه سياسة حكيمة في النهوض بالزراعة، قلما يصل إليها أحد حتى في عصرنا الحديث، إضافة إلى ذلك، فقد أقام المسلمون شبكة من القنوات والمجاري الظاهرة فوق الأرض أو الجوفية، التي حفرت تحت الأرض بطريقة هندسية محكمة الإتقان، وما زالت تلك الأعمال تثير إعجاب مهندسي المياه في عصرنا الحديث.

 

فهذا أحد المهندسين الأوربيين الذي زار العراق إبان الانتداب البريطاني يقول إن عمل الخلفاء في ري الفرات يشبه أعمال الري في مصر والولايات المتحدة الآن، وبذلوا جهودا كبيرة لتجفيف البطائح والمستنقعات، وعملوا على إزالة الأملاح التي تهدد بإفساد المزارع، وتحويل الأرض إلى سباخ بقشط الطبقة الملحية من على وجه الأرض وجمع الأملاح، أو بزراعة بعض النباتات التي تقاوم الملح كالحب والشعير، وزرعوا كل نوع من النبات في التربة الصالحة له بعد أن درسوا صلاحية كل تربة ومناسبتها لأنواع النبات المختلف، وحرصوا على ألا يبور أي جزء من الأرض الصالحة للزراعة، ليس هذا فقط بل عمدوا إلى المرتفعات والسفوح والجبال التي ما كان أحد يظن أنه يمكن الاستفادة منها في الزراعة لجفافها الدائم، فعمّروها، وأنشؤوا عددا كبيرا من الطرق، وعنوا بصيانتها، وأقاموا الجسور حول الأنهار لمنع فيضانها.

 

حتى كان الأمراء والقواد يقومون بالإشراف عليها بأنفسهم، كما عرفوا أيضا تأثير المناخ على النباتات، ففي كتاب فرائد الملاحة يقول مؤلفه عن البنفسج والضباب إذا دام عليه يوما وليلة دبله، البرد الشديد يفسده فسادا لا صلاح بعده، والرعد المتتابع يوهنه، ووقوع الدخان ربما أفسده، وعرفوا بعض الطرق المساعدة على سرعة نمو النبات مثْلما يعرف الآن بالمخصبات، ويقول ابن وحشية إن خير وسيلة للإسراع بنموها هو أن تغمس البذور أو أطراف الأقلام في الزيت، وبحثوا في طبيعة الأراضي، وتكوين التربة، ونظروا في كيفية تكوين الأمطار وأهمية الرياح لسيرها، وفائدة الجبال وأثرها في توزيع الأمطار على شتى مناحي الكرة الأرضية، واعتنوا بتسميد الأراضي عناية كبيرة، بعد أن عرفوا السماد الصالح لكل نوع من النبات، فزاد محصول الأرض تبعا لذلك زيادة واضحة، وعرفوا التلقيح، وكذلك عرفوا نظام التطعيم لبعض الأشجار.

 

واستخرجوا أصنافا جديدة، وأهم من ذلك كله أن أمراءهم حاولوا قدر الإمكان رفع العبء عن الزارع حيث رفضوا جباية الخراج على الأراضي إلا بعد مسحها إحقاقا للعدل، وأن يراعى ما تحتمله الأرض من غير حيف بمالك ولا إجحاف بزارع، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول اتقوا الله في الفلاحين، لا تقتلوهم إلا أن ينصبوا لكم الحرب، وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يكتب إلى عامله عبدالملك بن عمير “لا تضربن رجلا سوطا في جباية درهم، ولا تبيعن لهم رزقا، ولا كسوة شتاء، ولا صيف ولا دابة ولا تقيمن رجلا في طلب درهم، فقال عبدالملك يا أمير المؤمنين، إذا أرجع إليك كما ذهبت من عندك، فقال وإن رجعت كما ذهبت، ويحك إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو” وهذا زياد ابن أبيه يكتب إلى بعض عُمّاله أن أحسنوا إلى الفلاحين، فإنكم لا تزالون سمانا ما سمنوا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى