مقال

الدكروري يكتب عن الإمام بدر الدين الشوكاني ” جزء 4″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام بدر الدين الشوكاني ” جزء 4″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

وعلم الهيئة، والمناظرة والوضع، وحده دون معلم مباشر، وقام بتدريس هذه العلوم أيضا لتلاميذه وفي الجملة، فقد درس دراسة واسعة، واطلع اطلاعا يندر أن يحيط به غيره، فليس من المستطاع سرد ما درسه من كتب، أو استجازه من مراجع، ومن يرجع إلى كتابه مثلا إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر، يدرك مدى ما كان عليه هذا الرجل من تنوع في الثقافة، واتساع فيها، وقد برع في كل ذلك تقريبا، وصنف ودرس فيه، وقيل أنه لا عجب أن رأيت بعض كتاب التراجم يعرّف به فيقول مفسر، محدث، فقيه، أصولي، مؤرخ، أديب، نحوي، منطقي، متكلم، حكيم، وهكذا كانت أسرته أسرة علم وقضاء، احتلت مكانة سياسية مرموقة في عهد الأئمة الزيديين، لمناصرتها لهم في حروبهم ضد الأتراك، فكان أبوه من حفظة القرآن وارتحل إلى صنعاء لطلب العلم، ثم بدأ في التدريس بجوامعها ثم زاول الإفتاء والقضاء، وقد قال الشوكاني عن كريم خصاله وتعففه.

 

والحاصل أنه على نمط السلف الصالح في جميع أحواله، ويعتبر والد الشوكاني أول شيوخه ومن تلقى عليهم العلم، ثم توسع في نهل العلم من شيوخ صنعاء، ونشأ الشوكاني نشأة طبيعية، وكان وهو صغير يلعب مع أقرانه من الصبيان، واتفق أن مر عليه يوما شباب من فوقه سنا وكانوا يطلبون العلم، فقالوا له أنت ابن القاضي ونحن نطلب العلم، وأنت تلعب مع الصبيان، فقال لهم أنا إن شاء الله أطلب العلم طلبا لم تطلبوه، وبعد حفظه القرآن شرع في طلب العلم، حيث وجد بيئة علمية غزيرة عامرة بالشيوخ في صنعاء التي لم يغادرها مكنته من سهولة الطلب، فقد ذكر الشوكاني في سياق حديثه عن شيخه الحسن بن إسماعيل المغربي وكان رحمه الله يقبل علي إقبالا زائدا، ويعينني على الطلب بكتبه، وهو من جملة من أرشدني إلى شرح المنتقى وهو كتاب لجد شيخ الإسلام ابن تيمية المشهور وشرعت في حياته، بل شرحت أكثره، وأتممته بعد موته.

 

وكان كثيرا ما يتحدث في غيبتي أنه يخشى علي من عوارض العلم الموجبة للانشغال عنه، فما أصدق حدسه، وأوقع فراسته، فإني ابتليت بالقضاء بعد موته بدون سنة، ومن أجل شيوخه أيضا العلامة محمد بن إبراهيم الوزير، الذي يقول عنه الشوكاني فهو إمام الناس في التبحر في جميع المعارف والوقوف على الدليل، وعدم التعويل على ما يخالفه من القال والقيل، وقد نفع الله به من جاء بعده، ويذكر أن من أهم مؤلفات ابن الوزير هو كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، وإيثار الحق على الخلق، وكتاب الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم، ولقد نهل الشوكاني ما في كنانات أهل عصره من العلوم، حتى استوعبها وصار مالك زمامها، وشارك مشايخه، ولما أخذ عن كل واحد منهم ما عنده هم بالارتحال وتعويض الرجال لتحصيل ما لم يجده عند مشايخ صنعاء، فبينما هو يقوم رجلا ويؤخر أخرى.

 

إذ بلغ أمر تردده الإمام العلامة المتبحر الأوحد السيد عبد القادر الكوكباني، وكان ذلك عقيب وصوله من كوكبان إلى صنعاء، فأرسل إليه يقول له إنه بلغني عنك أنك تريد الارتحال عن وطنك، لتحصيل علم ما لم يكن عن مشايخ زمانك، وها أنا بغيتك وعلى الخبير وقعت. فذهب إليه الشوكاني خاصة وأن أبواه لم يأذنا له في مغادرة صنعاء فقرأ عليه ونهل من علمه وكان الشوكاني يرى أنه لم يكن في اليمن له نظير، وكما كان من شيوخه علي بن هادي عرهب الذي وصفه الشوكاني بقوة الفهم وسرعة الإدراك وتحقيق المباحث الدقيقة وعدم التقليد والاجتهاد بالرأي والإحاطة بعلوم الاجتهاد والزيادة عليها، وقد قضى الشوكاني معظم عمره في طلب العلم والتدريس، حيث بلغت دروسه في اليوم والليلة ثلاث عشر درسا، وزاول القضاء الأكبر، والعمل الوزاري ورئاسة الفتوى، فتمكن من تطبيق جانب من آرائه وأفكاره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى