مقال

الدكروري يكتب عن الحب والشوق إلي الوطن 

جريدة الاضواء

الدكروري يكتب عن الحب والشوق إلي الوطن

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

إن الفرد إذا حسنت أخلاقه أحبه الناس وأقبلوا على معاملته، وإن حسن الخلق هو قوام الحضارات، فالحضارات والأمم تبني على التعاون والتشارك والصدق والأمانة في البيع والشراء وسائر القيم والأخلاق الفاضلة أما إذا انتشر الكذب والنفاق والغش والخداع والتضليل والقهر والظلم والربا والاحتكار وانتشرت الجرائم من السرقة والزنا والقتل والتفجير والتخريب فأنى لقيام الحضارات؟ وإن المتأمل في سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يجد أنها مليئة بالمواقف والأحداث التي تدل على حبه لوطنه وشوقه إليه، ودفاعه عنه، سواء حيث نشأ بمكة، أم حيث أقام بالمدينة، ومن أولى الواجبات في هذه الأيام إدراك قيمة الوطن والشعور بمكانته، خاصة في ظل الظروف والتحديات التي تمر بها منطقتنا العربية، لذا يجب علينا نشر ثقافة الولاء والعطاء والفداء بين الشباب من خلال المناهج الدراسية، والندوات والبرامج الإعلامية.

 

فالوطن هو السفينة التي يجب على الجميع الحفاظ عليها حتى تنجو وننجوا معها، فإن أغلى ما يملك المرء الدين والوطن، لذلك كان من الحقوق والواجبات الاجتماعية في الإسلام والتي غرسها في فطرة الإنسان حقوق الوطن والأرض التي يعيش فيها ويأكل من خيرها ويعبد الله تحت سمائها، وأول هذه الحقوق الحب الصادق لهذا الوطن، ولقد وقف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يُخاطب مكة المكرمة مودعا لها وهي وطنه الذي أُخرج منه، فقد روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة “ما أطيبك من بلد، وأحبّك إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك ” رواه الترمذي، فقد قالها بلهجة حزينة مليئة أسفا وحنينا وحسرة وشوقا، مخاطبا إياها “ما أطيبك من بلد” ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مُعلم البشرية، يُحب وطنه لما قال هذا القول الذي لو أدرك كل إنسان مسلم معناه.

 

لرأينا حب الوطن يتجلى في أجمل صوره وأصدق معانيه، ولأصبح الوطن لفظا تحبه القلوب، وتهواه الأفئدة، وتتحرك لذكره المشاعر، وكما أن الإخلاص وحب الوطن والمجتمع والمساهمة في تنشئته وبنائه وتطويره والدفاع عنه هو أحد أهم الأساسيات الأخلاقية التي يرتكز عليها الإنسان، فكم من دولة لا تملك العتاد العسكري الحديث ولا تملك الأعداد الهائلة المدرّبة، ولكن بلحمتها واتحادها تقاوم العدو حتى آخر رمق دون استسلام وتستعصي عليه أكثر من تلك التي تملك كل أسباب النصر المادية من أسلحة وجيوش مجهزة، لذلك تجب المحافظة على الوطن والإخلاص له وبناؤه والمساهمة في ازدهاره والدفاع عنه إن لزم الأمر، وأنه لا ينبغي أن يكون شأننا مع أوطاننا قائما على حساب المصالح والمكاسب، فمن أعطي ما يريد بحق أو بدون حق رضي، ومن لم يُعط ما يريد ولو بغير حق انتفض، وشأنه في ذلك هو شأن من يتعاملون مع دين الله عز وجل بحساباتهم المادية الضيقة.

 

ومما لاشك فيه أن خدمة الوطن شرف عظيم، والعمل على بناء الدولة ورفعتها ورقيها وتقدمها مقصد شرعي ووطني، لأن حب الوطن والولاء والانتماء له وإدراك مكانته قيمة إنسانية راقية، لا يشعر بها ولا يقوم بواجبها إلا أصحاب الفطر السليمة، والمبادئ القويمة، فالوطن ليس مجرد بقعة من الأرض نعيش عليها، فالوطن حياة وهوية وأمانة، وإنه لما بلغ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الجحفة في طريقه إلى المدينة اشتد شوقه إلى مكة، فأنزل الله عليه قوله تعالى فى سورة القصص ” إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد” أي لرادك إلى مكة التي أخرجوك منها، ومن هنا يقول سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية ” إنه يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خلفه القلة المسلمة التي كانت يومها بمكة، ويتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مخرج من بلده، مطارد من قومه، وهو في طريقه إلى المدينة التي لم يبلغها بعد.

 

فقد كان بالجحفة قريبا من مكة، وقريبا من الخطر، ولكن يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه، والذي يعز عليه فراقه لولا أن دعوته أعز عليه من بلده وموطن صباه، ومهد ذكرياته، ومقر أهله، ويتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في موقفه ذلك فما هو سبحانه وتعالى بتاركك للمشركين” وعندما هاجر إلى المدينة، واستوطنها ألفها، بل كان يدعو الله أن يرزقه حبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد” رواه البخاري، فهو يدعو الله بأن يرزقه حب المدينة أشد من حبه لمكة، لاستشعاره بأنها أصحبت بلده ووطنه التي يحن إليها، ويسر عندما يرى معالمها التي تدل على قرب وصوله إليها، ومثلما دعا بحبها فقد دعا لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة” رواه البخاري، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

“اللهم بارك لنا في تمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعا لمكة، ومثله معه” رواه مسلم، وكان من دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام لمكة ودعاء رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم للمدينة فيظهر حبهما لتلك البقعتين المباركتين، اللتين هما موطنهما، وموطن أهليهما، ومستقر عبادتهم، ولقد اقترن حب الأرض في القرآن الكريم بحب النفس، فقال الله تعالى فى سورة النساء ” ولو أنا كتبنا علسهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل ” وقد اقترن في موضع آخر بالدين فى سورة الممتحنة فيقول الله تعالى ” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ” فكل هذا يدل على تأثير الأرض، وعلى أن طبيعة الإنسان التي طبعه الله عليها حب الوطن والديار.

 

وكذلك فإن ارتباط الإنسان بوطنه وبلده مسألة متأصلة في النفس، فهو مسقط الرأس، ومستقر الحياة، ومكان العبادة، ومحل المال والعرض، ومكان الشرف، على أرضه يحيا، ويعبد ربه، ومن خيراته يعيش ومن مائه يرتوي، وكرامته من كرامته، وعزته من عزته، به يعرف، وعنه يدافع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى