مقال

لا تفاؤل في ظل وجود عالم ظالم

جريدة الاضواء

لا تفاؤل في ظل وجود عالم ظالم

كتب/ يوسف المقوسي

 

الفوضى هي القاعدة. لا عجب إذا، ان كنا نعيش في الفوضى. العالم يتقدم لفظياً ولغوياً… الطوباوية كذبة مزمنة، والسلام لن يحضر في يوم من الأيام. لذا، نحن في دوامة تجديد الكوارث. لقد كان هيرقليطس على حق. السفسطائية المتهمة، وحدها على صواب، إذ، لا صواب ابداً. العقل يدعي النزاهة. انه خادم امين لنوازع الغلبة والقهر والظلم.

هل هذا هذر او هذيان؟

الواقع هو الحكم. الأفكار تغالي في ادعاء أمجاد الحلول، البشرية منكوبة. لأن قوامها قائم على الانسان. والانسان، مذ وجد، يشيع في العالم الفوضى. لا ديمومة لأي فكرة، لا ثبات لأي عقيدة، لا ممارسة لأي دين. تكونت جماعات وقبائل وطوائف ومذاهب وانظمة اقتصادية متتالية و… وكانت النتائج واضحة: المزيد من المآسي والفجائع… لا، ليس الموت هو الأزمة، بل الراحة. الحياة، هي الجحيم. والطريق الى الجنة مقطوعة، منذ قتل قابيل لهابيل. فلا غرابة اذا: إن عرّفنا الانسان، بأنه “كائن يقتل”، او ” يؤيد القتل”، او “جبان لأنه لم يقتل. او يُقتل بعد”.

 

بودلير الشاعر رأى ان الحداثة، ” تميل الى تعميم الفوضى”. كان وعد الحداثة ان تثمر حركة الثقافة وعجلة العلم في تأسيس عالم ينتج انماطاً مثمرة انسانياً، لا مادياً وتنظيمياً. دخلت البشرية دوامة الوعود: الحرية للجميع. الخير للجميع. الحكم من الشعب. المساواة ميزان العدالة. الديموقراطية “نظام فاضل”. العلم في خدمة الانسان. الانسان هو مركز الكون وكل اهتمام. تحرير الدول والامم من عاهات التخلف والفقر والظلم والتبعية. تحريم الاستعمار، وتجريم الاستيطان.

 

ونحن، كعرب وكيانات، صدّقنا عن جد كل ذلك. صارت الحداثة ديننا. الحداثة بحد ذاتها – كسلسلة من المفاهيم والقضايا والرؤى والحركة. لكنها لم تكن كذلك. كان كل ذلك شذوذاً جميلاً، عن القاعدة الراسخة. “التطور انسانياً، هو من سيء إلى أسوأ. ومن لا يرى هذا الرأي، فليراجع فداحة ما انتجه العلم في تطوير الاسلحة، اسلحة الدمار الشامل. ماذا حل بالكيانات الوطنية الرخوة. لقد بقرت بطونها. العرب باتوا على قارعة الطرق يستقبلون ويروجون للفتن. أما الاستيطان، فلم يعد عاراً اخلاقياً وانسانياً. بل اضحت الحداثة على قاب قوسين من تعيين “اورشيلم” الحكومة العالمية الحاكمة والمتحكمة.

 

لم نكتشف بعد، من البدايات، العناصر الخالدة لعدم التغيير الى الاسوأ ثيابنا تغيرت، اما عقولنا فتغذت من فضلات الحضارة، التي لا تشبع الا من يمسك بيده، زمام الغذاء والدواء والطاقة والمواصلات والنفط والتجارة والاراضي والممرات المائية… والفضاء كذلك. علما ان ملياري انسان يعيشون تحت خط الفقر.

يا لهذه الحداثة الفذة.

 

النصوص الجميلة، لا يمكن ان تلجم التدفق العنفي، والرأسمالي والتنافسي وإلهاب المشاعر بعصبيات سهلة. العصبيات نفط الحروب والقتال والإبادات. كل شيء يتغير الا العنف. كل شيء يتبدل سوى الفوضى. اليس معيباً ان “تختلق” القوى العظمى بعد الحرب العالمية (الاولى) حلا سلميا للحروب. وساهم علماء وفلاسفة (انشتاين. فرويد وسواهما) في تدبيج نصوص سلامية رائعة… فظيع هذا القفز من “المكتوب” الجميل والرائع، الى خوض حرب عالمية ثانية، الأوسع تدميراً وقتلاً وتشريداً. الذين وقّعوا على ميثاق عصبة الامم، لضمان السلام العالمي، كانوا عمالقة الارتكاب الكارثي لشعوب الكرة الارضية ولأول مرة ربما. يكون عدد القتلى من المدنيين اضعاف واضعاف من العسكريين. ثم، وثم، وثم. أعادت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، تجربة “جديدة”. مجلس أمن دولي. لحفظ الأمن. خمس دول لهم حق الفيتو، لحفظ الأمن الدولي. الدول الخمس، المنذورة نصاً لحفظ السلام، شاركت في معظم الحروب. ولم تمر سنة، من دون حرب.

 

القرن العشرون. بلغت الحداثة ذروتها. كانت بداياته متفائلة. “القانون الجيد، لا بد ان يكون جيداً لكل انسان، تماماً كما ان القضية الصحيحة هي صحيحة بالنسبة للجميع”. ( كوندرسيه ) خطا هذا افراط وتبسيط. الاقلام التي بيد الاقوياء، هي سيوف حادة وبنادق متدفقة الطلقات. الكلمات لا وزن لها. التأويل والتفسير والاجتهاد يفتك بالفكرة، تماما كما فتك بالديانات السماوية. التأويل والتفسير يؤدي الى التسليم بالتكفير وتتويجه قديساً في ملكوت الجحيم البشري.

 

مشروع التنوير الانساني، الذي انبأنا بتفاؤل متين: “فهم العالم، تقدم اخلاقي، العدالة الدولية، تدفق العلوم، السعادة لبني البشر” (هابرماس) . لم يصمد شيء من هذه الطوباويات. لقد مزّق القرن العشرون وهذا الربع الأول من القرن الواحد والعشرين هذا التفاؤل وداسه بجزماته ودولاراته وسيطرته، وفتح الابواب لمعسكرات الموت. لفرق التدريب، للمحارق (المانيا الهتلرية) وعسكرة الانظمة (خاصة في عالمنا العربي البائس والذي يدوسنا بأعقاب بنادقه) وحربان عالميتان وخطر نووي و… يا الله أين أنت!! أين كنت؟

 

لا تفاؤل ابداً. لا يعوَل على فجر.

 

لا أكتب عن عرب. هؤلاء وقود فقط. منذ مئة عام ونيف، وهم في المذبحة. تم تلقين الانسان الخضوع. عقوبة المواطنة الالغاء. ليس في العالم العربي برمته، مواطنون من المحيط الى الخليج، يعالج هذا الشعب العملاق، بالقمع والسجن والقتل والتعصب. وظيفة الانظمة ان تسيطر على الجميع، على الاصدقاء اولاً، ليكونوا عملاء لها، وعلى الأعداء، ليكونوا زبائن السجون وقتلى المعارضات. لا مشروع عربياً جدياً، كان له حظ إنتشال الانسان العربي من هذا العالم الكافكاوي المعتم والاعمى. كل الوسائل خطا. الغايات تم حصرها في التدجين وتصديق الكذب، والله “غالب”، والاتكال على الآية والنص المنضبطين بقوة الشرطة والأمن. الآية وحدها تحرر الانسان. الآية المعتقلة من السلطة، تحرم الدين من جودة الايمان. وكما الديمقراطية سلعة، يصبح الدين سلعة. الضدان يتشابهان. ذلك ان الديموقراطية الليبيرالية، اعطت الحرية للرأسمال، وضيقت بقوانينها، حرية القول، عبر تأميم وسائل التعبير. الاعلام تم القبض عليه. ومنذ 40 عاماً، تم القنص عليه وأصبح حذاء لدى الرأسمال العابر للذوبان والدول والأوطان والانسان… الإنسان المتفوق اليوم، هو الانسان الخادم الصادق، في نظام زيادة ثراء الاثرياء، وافقار الفقراء، واعدامهم جوعاً ومرضاً وتهجيراً.

وداعاً روسو الذي اعتبر “ان البشرية ملزمة بأن تصبح حرة”. بيكون تنبأ: “المجتمع الطوباوي يسكن فيه الكهنة الحكماء، حراس المعرفة وقضاة الاخلاق والعلماء الحقيقيين”… هؤلاء في وسعهم ممارسة سلطة اخلاقية على الحياة. ماركس، تنبأ نبوءة فاشلة: التحرر الكامل للإنسان يمكن ان يحصل، من رحم القيود الطبيعية القمعية لمنطق التطور الرأسمالي – التحرر، يحصل، عندما يتولى المنتجون المباشرون مصائرهم بأيديهم”.

 

عبث. كل هذه النبوءات فاشلة. الغلبة للمال على العقل والعالم، المال إله من اقوى واقصى وأكثر الوحوش توحشاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى