مقال

في أي مشهد من مشاهد النظام الدولي نعيش

جريدة الاضواء،

في أي مشهد من مشاهد النظام الدولي نعيش
كتب / يوسف المقوسي
أحيانا تتعقد بدائل المستقبل إلى حد يدفع بالمحللين في تحليلاتهم إلى الميل في اتجاه التنظير قليلا سعيا نحو فهم أفضل أو ممكن. يحدث هذا عندما تتعقد الأمور عند حدود قصوى ويتصرف اللاعبون، وفي حالتنا اللاعبون الكبار دول نووية أو ما شابه، تصرفات المراهقة أو اليأس أو تسلك عن عمد مسالك الاستهتار.

بعد مراجعة ما قيل في قاعات الخطب والمناقشات العلنية وما تسرب من أحاديث في غرف وصالونات مغلقة في مؤتمر ميونيخ للأمن وبعد الاستمرار في متابعة تصرفات من جانب دول كبرى وصغرى وبعضها نووي التسلح ومقارنة هذه التصرفات بسلوك المراهقة أو بدت لنا هكذا كمعاصرين لها ولكثير من علماء السياسة الذين سجلوا تفاقم هذا السلوك في كتب وأبحاث. كشفت المقارنة لي على الأقل أن اللاعبين الرئيسيين في الأزمة الراهنة يستخدمون درجة عليا من القسوة والبشاعة لا أجد تبريرا لها إلا أن لهؤلاء اللاعبين أغراضا وأهدافا لا يعلنون عنها. لا أقصد أن هذه الدول لم ترتكب حماقات في السابق فبعضها ارتكب بالفعل جرائم ضد الإنسانية، إنما أقصد أن ما اتضح لنا حتى الآن يتجاوز في بشاعته أفظع ما ارتكبه الكبار كما الصغار في أوقات عشتها أنا وأبناء وبنات جيلي. عشنا فظائع ارتكبت في بودابست وبراج عندما اقتحمتهما القوات السوفيتية في أزمتي 56 و68 على التوالي. عشنا فظائع أخرى، وإن أبشع، في حربي أمريكا ضد فيتنام والعراق وقبلهما في حرب شنتها بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر. اليوم نحن شهود على حرب دمار شامل تشنها روسيا على أوكرانيا وحرب ليست أقل بشاعة تشنها أمريكا على روسيا باستخدام أوكرانيا وكيلا لها. تجري أمام أعيننا التضحية بشعبها وعمائرها ومصانعها وحقولها ومحطاتها النووية لهدف لا يخفى ضد الكيان الروسي.

نحن شهود في الوقت نفسه على نظام جديد ابتدعته الولايات المتحدة وتطبقه على روسيا ومعها كل دولة في العالم تسول لها نفسها التعاون معها. نظام عقوبات متصاعدة ترقى أو تنحدر إلى هدف فرض العدم وليس مجرد الهزيمة على الخصم بدون أي اعتبار يذكر لما يمكن أن تسببه هذه العقوبات من أضرار جسيمة للبشرية بأسرها. ففي أي مشهد من مشاهد النظام الدولي نعيش ونحو أي مشهد نسير أو نساق؟

أولا: نعيش في عصر الأحادية القطبية، ومن أسمائه الأخرى اسم عصر الهيمنة الإمبراطورية. المحبون لهذا المشهد يعتقدون في قدرته الأسطورية على إحلال السلم، ومن هنا اختلقوا عبارة لحظة القطب الأوحد باعتباره عصر سعادة وأمن . قيل إنه يأتي غالبا بعد مرحلة قطبية ثنائية مثلما حدث بعد مرحلة الحرب بين اسبرطة وأثينا وبعد مرحلة هيمنة نسبية من جانب فرنسا وبريطانيا في القرن التاسع عشر على صراعات القارة الأوروبية، وإن اختلطت الهيمنة الثنائية هناك بحالة توازن قوة أشبه ما تكون بمشهد التعددية القطبية.

ثانيا: مرة أخرى تبرز حاجة العالم إلى تنظيم دولي إقليمي مواز للنظام الدولي ولنسميه مجموعة المائة دولة أو مجموعة دول الجنوب العالمي. يعلم قادة الجنوب أن استقلال بلادهم ورفاهية شعوبهم إنما تعتمد على مشهد دولي مختلف كلية عن مشهد الهيمنة الذي تسعى قوى أو مصالح معينة في الولايات المتحدة ودول أخرى لاستمرار فرضه تحت مسمي النظام أحادي القطبية. نعرف في عالمنا الجنوبي حجم الظلم والحروب التي مولتها أو نظمتها أو أنشبتها دولة الهيمنة في جنوب العالم. هنا في منطقتنا شرق الأوسطية عانينا ونعاني من عواقب حماية دولة الهيمنة للمشروع الصهيوني في فلسطين.

لن تكون هينة المرحلة القادمة في تطور النظام الدولي. لا يبالغ من يتصور معارك كسر عظام تسبق ولادة المشهد القادم، أولها وليس آخرها الحرب العالمية الناشبة حاليا ضد روسيا ومنها إلى الصين وأحد ضحاياها غير المباشرين الشعب الفلسطيني. أبشع علامات هذه الحرب العقوبات الاقتصادية وفي صدارتها عمليات التجويع وفي ركابها إطلاق سباق استعماري جديد لنزف البقية الباقية من ثروة إفريقيا.

من ناحية أخرى يبدو أننا سنكون شهودا على تصدع محتمل في البنيان الغربي نتيجة تطورات مثيرة بسبب ماضيه الأغبر. أوروبا نراها “تتعسكر” وأبناء جيلنا وأجيال أخرى تسبقه شهود على حجم التضحيات البشرية والمادية التي تحملتها شعوب القارة الأوروبية نتيجة عسكرة مماثلة حدثت مرارا وخلفت دمارا.

من ناحية ثالثة لا يجوز أن نتجاهل حقيقة أن الغرب شاخ أو في أحسن أحواله يشيخ بتدرج متسارع، أو نتجاهل حقيقة أن منظومة القيم الغربية لم تعد مرغوبة أو محبذة في العديد من بقاع العالم. بمعنى آخر لم تعد “رسالة الرجل الأبيض” تجد أذنا صاغية أو متفهمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى