غير مصنف

إمبريالية في ظروف مختلفة لكنها إمبريالية

جريدة الأضواء

بقلم / يوسف المقوسي 

قلنا سابقاً إن النظام العالمي يتشكّل من دول (تراتبية) على رأسها الولايات المتحدة. تحكم الولايات المتحدة هذا النظام بالقوة العسكرية التي تنتشر جيوشها وقواعدها البرية، البحرية، والجوية، وقواتها الخاصة، ومرتزقتها، حول الأرض.

الدولار هو عملة ورقية تحميها الجيوش الأميركية، ولم يعد يرتكز على الإنتاج الاقتصادي. تحمي القوى العسكرية الدولار، وذلك هو الأساس في جباية ثروات العالم. تتدفّق هذه الثروات باتجاه الولايات المتحدة، ومنها تتدفّق نحو البلدان الأخرى بحسب ثقافة النيوليبرالية، وهي عقيدة الرأسمالية المالية السائدة .

الثقافة أهم صادرات الولايات المتحدة، هي ثقافة استهلاكية لتلبية النزوات العابرة، ما عدا نزوة واحدة تحتكرها الولايات المتحدة، صارت أساس كل النزوات الأخرى، وهي تراكم المال لدى قلة من الناس مع تسطيح الوعي وتعميم الفقر على البشرية.

صناعة الثقافة النيوليبرالية تساهم مساهمة أساسية في صياغة ثقافة العالم، سواء الطبقات العليا، أم الطبقات الدنيا من الفقراء والمهمشين الذين يشكلون الغالبية العظمى من البشرية. تطفو هذه الثقافة العالمية الامبريالية فوق الثقافات المحلية التي يتحوّل عبئها الى فولكلور محلي، يُحتفل به في المناسبات، وتقام له المهرجانات، ويُشكّل ما يُسمى الذاكرة التاريخية للشعوب.

إن استخدام الخلوي، التلفزيونات، الآلات المنزلية، السيارات، والطيارات، الخ… ليس عاملاً حيادياً في أي ثقافة، ولدى أي جماعة بشرية. هذا الاستخدام لا يُفرض قسراً أو بالعنف، بل بقوة جذب تبدو هائلة في مفاعيلها.

لم تعد الامبريالية مجرد سيطرة عسكرية، بل هيمنة ثقافية، وهذه ربما كان لها الأثر الأكبر لدى الكثرة الغالبة من المهمشين في الأرض، بما يفوق أثر الاحتلال العسكري المباشر، الأمر الذي لم يفهمه فلاديمير بوتين لدى شنه حرب أوكرانيا بظروف هيّأتها له الولايات المتحدة، التي ما زالت تغذي الحرب عبر تزويد أوكرانيا بالمال والسلاح.. والإحداثيات.

ربما كان اقتناء سيارة ـ ولو مستعملة صارت على شفير الإحالة الى مخيمات وساحات تجميع سقط المتاع، وبالكاد تصلح للسير دون صيانة دائمة ـ هو حلم العدد الكبير من الفقراء. الآن صار الهاتف الخليوي، كما يبدو، حاجة ملحة لكل بشري، حتى أنك لا ترى عاملاً يومياً، أو ربما متسولاً، دون هذه الآلة الذكية في جيبه، وهو يلبس جينز مهترىء وإحدى جيوبه مفتوحة، بما يشير إلى أن صاحب الآلة يملك شيئاً من الحداثة، بالأحرى تأكيداً مادياً على التحاقه بالجماعة العصرية.

ليس الهاتف الذكي مجرد آلة للتهاتف، وما أقل التواصل بين الفقراء والمهمشين، بل هو يحمل في طياته “ثقافة” واسعة لكثرة ما فيه من تطبيقات يعجز عن الإحاطة بها ربما أكثر الناس علماً ومعرفة. تكنولوجيا المعلومات ليست ناقلاً حيادياً للمعلومات، بل هي وسيلة فعّالة للهيمنة الثقافية، وتساهم في تشكيل الأيديولوجيا السائدة، وهي لا تنقل إليك ما تريد وما لا تريد وحسب، بل تنقل عنك أيضاً ما تريد وما لا تريد. ربما لم تعد للجاسوسية البشرية أهميتها السابقة، فما دام الهاتف الخلوي في جيبك أو قريباً منك، فأنت معروف المكان والمنطوق. وأنت خاضع لتأثيرات ما ينقل إليك وعنك، ليس بإرادتك أو رفضك، بل بما يدخل دماغك ويُشكّل وعيك، ويُملي عليك إرادتك. الآلة الذكية وسيلة للتواصل. هي وسيلة لهتك الديموقراطية، لأن إرادتك تتشكّل بالوعي الذي تمليه عليك الآلة الذكية.

من مركز واحد أو بضعة مراكز امبريالية، تنطلق المعلومات ويُرجم بها دماغ المتلقي، وهو معظم البشرية، حتى تنغرز المعلومات في تلافيف الرأس والقلب، وكل كيان المتلقي، ليصير على الصورة المطلوبة. صحيح أن تدفق الثروة والثقافة يتعاكسان في موقعهما، لكنهما يتدفقان من حيث والى حيث يُقرّر المكان العالي.. وهو المركز الامبريالي.

لا بدّ من الإعادة والتكرار أن العلاقات الدولية في النظام العالمي لا زالت علاقات غير ندية. الأقوى يُقرّر للأضعف، أو للأقل قوة، ماذا يريد، بالقوة والثقافة والتفوّق. الديموقراطية بمعنى المساواة مثال لا يتحقق، أو هو وُضِعَ كي لا يتحقق. هو الوهم الجميل بأن صوت دولة متخلفة ببضعة آلاف أو ملايين من السكان يساوي صوت دولة عظمى أو عظيمة. الأهم من الجمعية العامة للأمم المتحدة هو مجلس الأمن، حيث القرار أو اللاقرار (الفيتو) بيد خمس دول تحيط بها 15 دولة .

ما زالت القوة هي طريق السيطرة أو الهيمنة، لكنها القوة الناعمة أكثر من القوة القاسية في غالب الأحيان. لا بل إن القوة الناعمة تُولّد مشاعر ود بين السيد والمسود، بينما القوة القاسية (العنف) تُولّد علاقات سلبية وكراهية بينهما. ربما كان هذا الفرق الأساسي بين امبريالية اليوم والأمس. امبريالية في ظروف مختلفة لكنها امبريالية.

حلّت منصات التواصل الاجتماعي، أو التفاصل الاجتماعي، مكان جميع وسائل نقل المعلومات الأخرى. لا بل أصبحت مُكوناً أساسياً، إن لم يكن المُكوّن الأساسي، في تكوين وعي جحافل البشرية. يكفي أن تصير مستهلكاً للخلوي أو الانترنت أو قارئاً للمواقع الإلكترونية، كي يصير دماغك أو تفكيرك غير ما كان عليه. ثمة عزل اجتماعي للفرد، حيث تتحوّل العلاقة مما هي، أو مما تعودنا عليها أن تكون بين الناس، إلى علاقة أو علاقات بين الفرد والآلة الالكترونية التي بيده أو على طاولته. الأصح القول إن الآلة الإلكترونية للتواصل هي نافذة كل شخص إلى العالم؛ فيها يرى العالم، وبها يتكيّف، ومما يتلقاه من معلومات يُكوّن وعيه. تكون في جلسة أنس مع 10 أو 20 شخصاً، وترى عدة أشخاص منهم حاملين الخلوي، لا يصغون لما يقوله الآخرون، بل يكون تبادل الخطاب محصوراً بينه وبين الآلة التي في يده. هي ثقافة الانقطاع عن الناس. ليس الانقطاع بمعنى العزلة للتفكير بل لعدم التفكير. كيف يُفكّر من دماغه مأخوذ بما يرى ويسمع عبر هذه الشاشة الصغيرة. المستهلك الجديد ليس من يستخدم الأشياء والسلع المصنوعة لفائدة ما بل الذي تستهلكه الآلة الإلكترونية التي يظن أنه يستهلكها أو يستعملها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى