دوبلير
دوبلير
ويكون “الدوبلير” ماهراً موفَّقاً في لقطاته ومشاهده الخَطِرة؛ بقدر ما يتمثَّل شخصية البطل الأساسي، ويعيشها حيةً قبل التصوير.
ومن مهارات “الدوبلير” المُعِينة كذلك على تميّزه أن يجنِّب وجهه الكاميرا حينما يخاطر بصعود أو هبوط، أو بتسلُّق وقفز، أو بسقوط وانحدار، أو حين يوجِّه لكمة لأحدهم، أو يتلقى ضربات ووكزات.. لكن هل يقتصر دور “الدوبلير” على فن التمثيل فقط؟
وإلى قصتنا..
“عاصم” شخصية مُحبة للعلم والأدب، قارئ نهم، ومتحدث لبق، ومفكر حر، لا يؤمن إلا بما يقتنع به، ولا يفعل إلا ما استقر اعتقاده في ضميره، ورسخت صحته في فؤاده، وركز صوابه وجدواه في وجدانه.
مرَّ “عاصم” بأزمات مالية حادَّة، لكنها لم تفتَّ في عضد قناعته، ولم تهزَّ أركان عقيدته، ولم تعدُ أن كانت نسمة لافحة في ليلة صائفة سرعان ما لطَّف الفجر من أجوائها حين تنفس الصبح عن نسائم الصَّبا.
“عاصم” عقلية علمية متأدبة، خبر المناهج، ووقف على كثير من نماذج وطرائق وعيون الكتابات الأكاديمية، والعلمية، والأدبية، والإنسانية، ومثَّل “عاصم” مرجعية علمية لزملاء دراسته، وأصدقاء عمله، وأقران محيطه وثقافته.
قَرَض “عاصم” الشِّعر، وعالج النثر، فنظم القصائد، وكتب القصص، وحرر المسائل والمقالات، يُحركه في ذلك كله نبوغُ عقل، وطيِّعُ لُغة، والتماعُ فكر، وتدفقُ مَعَانٍ، وانثيالُ قلم، وانسيابُ يَرَاع.
كان “عاصم” موظفاً ليس له نصيب من شهرة أو تألُّق، وإن كان بعض ذوي الشهرة يعرف قيمة “عاصم” وقامته، ويجلّ علمه وقدره، ويعظم فكره وأدبه، وذلك كان يتحقق بعد أن يجمعهم بـ “عاصم” نقاش أو حوار، أو مُراجعة ومُناظرة، أو حين يقرأ واحد من أولئكم العيون المبرِّزين ما خطَّه “عاصمٌ” بنثر أو حقَّق وكَتَب، أو ما صوره بنظْمِ شِعْرٍ وأدَب.
وأثناء أزمة مالية ألمَّت بـ “عاصم”، اتصل به أحدهم من بلد خليجي شقيق، وترك لـ “عاصم” رسالة صوتية جاء فيها:
أرجوك بعد الاطلاع على فهرس خُطة الرسالة، أن تجمع المادة العلمية من أمهات الكتب، وحديثها، ومعاصرها، وأن تعزوها إلى قائليها من المصنفين، والعلماء، والأدباء، مع تخريج الآيات والأحاديث، والأقوال والأشعار… إلخ.
وإن عُدتَ لبعض المراجع الأجنبية كان أجمل وأوفق، ولا تنسَ عمل مقدمة وتمهيد، وتوصية وخاتمة، وملخص وفهارس، مع التدقيق اللغوي، ثم أخبرني ولا تغالِ بأتعابك التي سأُنجمها (سأجزئها) لك مع كل فصل أو باب تُرسله من الرسالة.. شكراً عاصم”.
ثم بعد أسبوع فوجئ “عاصم” بهاتف من أحدهم من بلده المحروسة يتصل به، ويعرض عليه عرضاً خرج من ظلمات صاحبيه الخليجيين، إلا أن المصري كان أكثر حُجة وإلحاحاً، وأشد سحراً وبياناً وإيضاحاً، وأبلغ إقناعاً وإلماحاً، وقد أومأ بأنه ربما ارتزق من وراء الصفقة إن قبلها “عاصم” وأوثق عراها وأمضاها!
ثم سجل “عاصم” هذه الرسالة صوتياً بعد أن سطرها:
“لو مَرِض أحدكم هل يذهب إلى طبيب نال شهادته بمثل ما طلبتم مني؟ هل إن احتاج أحدكم أن يبتني بيتاً أو يشيد برجاً هل سيستعين بمهندس حاز على شهادته من الطريق الذي عرضتم علي؟
إن “الدوبلير” في عالم الفن والتمثيل يؤدي ما يخطر على الفنان أداؤه من مشاهد ولقطات، فإن قام “الدوبلير” بها مُعرِّضاً نفسه للتهلكة نجح العمل واستمر البطل بطلاً، والدوبلير دوبليراً، وفي حال عدم وجود “دوبلير” أو هو عزّ وندّ، أو غالى واشتط؛ فإما أن يقوم البطل بالمشاهد كلها فينجح، أو يهلك فيكون العمل الأخير له!
إن ممثلين فنانين يعرفون أقدار ومنازل بعضٍ لخيرٌ من أكاديميين جامعيين يغشون وينتهبون سرقات علمية، إن كنتم رضيتم بأن تكونوا أبطالاً وأنتم لا تزالون بعدُ “كومبارس” فإني لن أقبل أن أكون دوبليراً ما دمتُ أنا البطل!”