مقال

الزر الكهربائي والعفريت الصغير

الزر الكهربائي والعفريت الصغير

 

بقلم / عبدالله إيهاب

 

فى غُرفة مُهملة من المنزل ، تعج بحطام كُرسى خشبى ، وأرجل منضدة و سوستة أحد المراتب و الكثير من حقائب ملابس مُهلهلة و قديمة ، وفى رُكنٍ بعيد بالتحديد أسفل زِر الكهرباء الخاص بالمصباح تخلّص أصغر سكان المنزل من صندوق القمامة الذى أوكله إياه أباه كمهمة له حتى يعود إلى اللعب سريعا غير عابئًا كم سيجنى أعضاء الغُرفة من فعلته المشينة إلى أن يكتشف ذاك أحد زوّار هذه الغرفة حامًلا خراب جديد أراد أن يُهمل ، وعندما عاد أب المنزل إلى الغُرفة بسرير الصغير “العفريت” وقد تمزقت أوصاله فأخذت مفاصله تُزيق كإستغاثة أنين مسكين ، وياله من مسكين كبير ، عاش فى غُرفة عفريت و أُهمل فى غُرفة الخراب تِلك مع رائحة بقايا دجاج مَشوّى ، احترقت لأجله صديقتنا “شواية” وكان مصيرها من مصيرنا .. هُنا .

لعلّك تتسائل من الرواى ؟

إنه أنا ، ذاك الزِر الكهربائي الذى أعطانى القدر – بل لنوضح أكثر – أعطانى عفريتًا صغيرًا التمعت أعينه بشيطنة ليفرغ بى إحباطه لأن أباه لم يوُافق أن يذهب للعب مع سوسو إبنة الجيران موبخًا إياه أنه رجل ، والرجل يلعب مع رجل ، فجاء لخرابنا يبكى ويشكى وأفرغ شُحنته الرجولية بوجهى ، بوكسًا أخفى بروزى ، و لمّا كان لا فائدة لى وتزاحمت الأشياء الخَربة ، أراد المالك أن يطمسنى من حيز الخراب إلى اللاشئ ، وحيدًا خلف دولابًا ضخمًا .. لا أرقى أن أكون خرابًا .

يصعد إلىّ رائحة العَفن مُكثفة ، إذ أن العفريت ولمرة أُخرى يتفنن فى تعذيبى ، فألقى صندوق قمامتهم خلف الدولاب الذى بالطبع أنا خلفه .

فى الحقيقة لا أعلم كيف يستطيع صاحب المنزل إعدامى هكذا ، فأنا مفتاحُ النور فى هذه الغُرفة ، وكُنت على أمل كبير أن تقرصهم حاجتهم لى فيحاولوا إصلاحى لأعود للحياة من جديد ، ولكنّى وجدتهم ببراعة أُسرة تُهمل ما تُخرّب ، تفادوا حاجتهم للنور بأن أصبحوا يرتادوا الغرفة نهارا ، شهرٌ وشهرين وثلاث ، حيث أُلقيتُ فى حائطٍ ، كأني والحجر سواء ، ولم أكنُ يومًا غير ذلك.

فى يومٍ زارت جدة العفريت البيت ، علمت من كثرة التردد على الغرفة ، فالجدة حازمة جدًا ضد الخراب ، لا تطيق رؤيته ، وحينما تزورهم ، يزورنا من الخراب الكثير ، لا أعلم هل الجدة على عِلم بهذه الغُرفة أم أنها لا تدرى عنها شيئا ، ولكنّى على أمل أن تكون لاتدرى، فجأة سمعت صياح العفريت ، فعلمت أنه إما خرّب شيئا ويبكى لتعنيفه أو يرغب فى اللعب مع سوسو ، غالبًا ما تنحصر أسباب تعكّر مزاجه فى إحدى الأسباب السابقة، ولكنّى لا أهتم ، لحظة .. دبيب قدماه يقترب إلى هُنا ، مهلًا ماذا يرغب الآن ، لأول مرة أشكر الله أنّى خلف الدولاب بمأمن عن أيدى هذا الشيطان ، لكن سُرعان ما وقع علىّ ضوء مصباحٍ دائرى أصفر اللون باستفزاز ، هلعت من فكرة أنه يقصدنى ، ثم فهمت من صيحات والده وتمتمات العفريت ، أنه يرغب أن يكتشف ما وراء مُربع الزِر الكهربائى و أباه يمنعه من الإختراع و الإبتكار ، وأنه طالما رفض أباه فِكرته بالأعلى ، فسيرضى أن يُنفذها فى شخصى المفخوت فى وجهه بالأسفل ، ياربي ، لماذا علىّ تحمل أفكار الشياطين هذه ، ولأول مرة- منذ زمن بعيد عندما رغبت بها- والشيطان الأشقر يُجردنى من مسامير غطائى دون أدنى حياء ، تشبثت بالكهرباء فى أصابعه لأصعقه بغيظٍ يُزهق روحى الذى تحملت الخراب والعَدَم ولم تتحمله.

 

وأُلقيَ المصباح الدائري من أيدي العفريت إلى أرضية الغرفة ، من خريطة الاستخدام إلى أرض وطننا الخَرب ، تدحرج على الأرض فى لوعٍ يأمل انتشاله من قعر مُصيبته ، أو لنكون أحرى لفظًا ، من صُحبتنا .

 

ظل المصباح يدور ويدور حتى هده التعب ، و اصطدم بحافة أثاث منزلي ، لم يأمل يومًا أن يراه.

 

مكتبٌ في أقصى الغُرفة محمّل بشخابيط وخربشات، استمع إلى أنين المصباح كاملًا ، عليه ورقٌ ناصع البياض سوّده غُبار الزمن ، لم يمسسه إنسٌ ولا جان ، لو كان ورقٌ مُتحف بشخابيط طفلٍ أحمق كما المكتب ، لكان سببًا لعزوف الروح عنه ، ولكان أقطع لأملٍ تُمزّقه الأسباب أن يلتفت إليه يومًا أحد.

لم يشفع له كل هذا البياض..

فحكى الورق لصديقه الحبر ، فبكى الحبر على الورق.

 

وانسكبت قنية حبر أسود كاملة على الورق هدّها الصمود ، كان أوقع فيها الطفل حِبرٌ أحمر مُغاير ، عفّت نفس مالكها أن يستخدمها لخطأ لم تسعى إليه بل سعى هو إليها ، جرّي الحِبر منها بشراهة واشتياق بعد سنين ركود ، وسرح على ورق الزمان ، وأجاد شقّ التُراب ، بفرعي دجلة والفرات ، وألوانهم.

الأحمر والأسود.

 

سرح الحبرُ على أرضية الغُرفة وتسرّب من أرضيتها المُهلهلة بجنون حُرية اشتاقها ونسى كيف كان بها يصنع !

وكأنه من كثرة الجمود ظنّ أنه حجرًا ، خُلق ركيزة لسد ثغرات ألمٍ ، بيد أن الحجر يُستخدم.

 

وكذا أقدارنا ، وكذا قسائمنا ، وكذا مآسينا.

 

كُلٌ يبكي على عطبه ، وكُلنا نتشارك في ذات البلاء على اختلاف ، لو كان بيننا مصباح حُرم شعاع الضوء الذي يسكنه ، فهناك زر مصباح تعطّل لا يُرتجى فيه النظر ، لنفترض صغر حجمه السبب في هذا الخصام وعزوف الاستخدام ، لكنه يسكن خلف دولابٍ على ضخامته هو الآخر لا تُدركه الأبصار فيُنظر في سبب خرابه ؟

أم تتمنى تكون مكتبٌ مُهمل لأنه كُتب عليه ففسد مظهره ، أم تأمل في حظ قنية حِبر لُوِثت فأفسدت حظ الورق الذي معها في الاستخدام والنفع فكان ألم الورق أنه لم يُساء الاستخدام حتى ؟

والطفل بحماقة كتب في الذي لا يُكتب ، ولم يكتب في الذي جُعل للكتابة.

فخسر الذي يُكتب فيه والذي لا يُكتب.

راجع حظّك من القدر ، ربما لديك الحظ الأوفر- لك- ، والذي -أنت وحدَك- تستطيع تداركه.

وأنت -بالتبعية- لا تُدرك عَطب غيرك ولا تُصلحه.

 

انظر إلى وضع قدمك لا وضع غيرك لأنه فقط برز و بان لك في ظاهر الأمر راحته المُترفه جوار جحيمك.

فلو كان الأمر بالبروز ، لأخذ بُراز المواشي الصدارة ، ووسام النجاح.

 

ولذا حاجتنا لزر النور أكبر من حاجتنا للنور ذاته ، خريطة حُسن استخدام ، وإنقاذ ما غرق ، لا غُرفة خرابٍ نُخفيها ، واغراقها ..

ولذا فقدت الغُرفة مراسم الأمان لا بكثرة الخراب ، ولا بكثرة العدم ولا بفقدان شغف استخدام ما فيها ، بل لأن زر المصباح الكهربائي تعطّل.

 

أين أنتَ والزِر في نفسك ، لا تغفله فَتُهمل.

فالألم معقودٌ في نواصيه الأمل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى