مقال

نحن المُخلّصون

نحن المُخلّصون

 

الحياة أصبحتْ كالموت الآن؛ فحجب نور الشمس، وتعكير خرير الماء أماتا كل حي. قد بدّل كلَّ شيء شرذمة من شرار البشر؛ فكان النور لهيب الأجساد، والماء بحرٌ متلاطم غارقٌ للقلوب. حتى نجوم الليل طالتها أياديهم؛ فخرج منها نورٌ أضاء لهم مسالكًا لهدم ضعفاء الأرض ومغيبى العقول، هدْمهم بمعاول أطماعهم وأهوائهم.

هم لا يألون جُهدًا من أجل فناء كل ما يستطيعون من الناس ليستحوذوا هم على منح الطبيعة، يجاهرون بألسنة كالحديد القاطع، ويسرّون أحيانًا أخرى بقلوب قاسية كقلوب الصخر. يعوون في كل أرض، ويهلكون مالكيها بفحيحهم الأشبه بفحيح الأفاعي، تترامى سهامهم مصوبة على القلوب قبل الظهور، وتتكاثر قضبانهم وقيودهم من أجل أن يرتعوا رتعًا في المُلك والسيادة وملذات نفوسهم.

وما زال الدم يقطر من أيديهم، ولم ينتهوا، وما زالتْ طعناتهم تتوالى، وما زالتْ الصرخات تملأ الآفاق. ورسائل طبول الحرب محمولة -للأسف– بأرجل حمائم السلام، فمعذرة أيتها الحمائم، معذرة مرة أخرى.

 

إذن، أين الحياة ؟!.

الحياة نجدها في الخلاص منهم، ومن أجل ذلك؛ فلابد أن نستنفر مكامن قوتنا أولاً، ثم نجعلها تذوب فى عزائمنا ثانيًا، ثم ترسم لها على محيط طريقها ملايين من محطات النضال التي لا يكف قاطونها أبدًا عن الكفاح. لابد أن ينبض قلب الحياة من جديد؛ حتى نحافظ على ما تبقى من الضعفاء الذين لا يملكون ذرة أمل في البقاء، أو حتى ما تبقى لهم من رماد أنفاسهم المتهالكة.

لقد عبثنا نحن المخلّصون فعبثتْ بنا الأقدار، وتملكنا اليأس فخارتْ قوانا، فكان بيت العنكبوت أحصن من بيوتنا! والنملة على مرأىً من العيون أكثر منا! وذاك لأننا ببساطة تلاشينا تمامًا.

لقد انفلتتْ نفوسنا بعد أن استسلمنا للأهواء؛ انفلتتْ ولا رادع يردعها إلا بالعودة إلى قلوبنا البيضاء؛ تلك التي لم تُدنس قبل أن تكلف بأمر وتُنهى عن أمر.

لقد آثرنا مضاجع النساء، ولاكتْ ألسنتنا أطايب الطعام، حتى تمكن أولئك الشِرذِمة من كل شيء، فأمسكنا الهوى، وانفلتتْ من بين أرجلنا روح النضال. يجب علينا أن نستفيق من سُباتنا الذي هبط مع هبوط الإنسان على الأرض، فلابد أن نكون صادقين أمام أنفسنا حتى نرى كل شيء على حقيقته، فيتبين الجمال من القبيح، والحق من الباطل، فيستقيم الميزان، فلا تميل إحدى كفتيه عن الأخرى، ونرى في ثغره ضحكة راسخة لا تعبس أو تهتز أبدًا. لابد أن نقتل الحقد ليتحرر الحب بداخلنا، وننكأ الأطماع حتى يتنفس السلام، ونزيل طغيان الأنانية حتى تنقشع منح الطبيعة. يتوجب علينا أن نفعل كل هذا سِراعًا كالفهود، وخواطف كالرعد القاصف، فانْ لم نستطع؛ وجب علينا أنْ نتكئ على عصا الإخلاص، وأوتاد العزيمة حتى لا نكبو، فإن كبونا فعلينا باستدعاء المزيد من العزائم والإخلاص من نفوسنا. لنركب خيول الحرب سائرة نحو حصون الشياطين، خيول يُسمع صهيلها من عزائمنا المنصهرة من ضمائرنا المستفيقة. لنهدم بيوتات العنكبوت التي نصبوها فنحفظ الدماء، ونقطف رءوس الأفاعي التي ما زالتْ تفح السموم، علينا بتلجيم عِوائهم الأشبه بالذئاب حتى تعود الأرض إلى أصحابها.

علينا بطمْس نِصالهم وسِهامهم حتى تخيب رميتهم ولا تصيب.

فإذا انتصرنا علي هذه الشياطين علينا بعدم ترك ظهور الجياد أبدًا، لابد أن نُكسّر القضبان، ونُذيب القيود، ونُطلق أسيرالظلم والطغيان.

وعلينا باحتضان أولئك الضعفاء الذين يحيون خلف أسوار الحياة، فإنْ وجدناهم مازالوا على قيد الحياة نفخنا عزيمتنا في أرواحهم حتى يبرءوا، وعلينا بدفن موتاهم؛ فلا نبكيهم، ولا ندعهم يبكون إذ إن العمل لابد أن يُنجز سريعًا حتى لا تفلح الشياطين في تسديد رميتهم، ثم نؤازرهم ويؤازرونا باعتصام القلوب واصطفاف الأقدام. لابد أن نحيا ..نحيا من جديد.

فإن أبى قنوطٌ من الحياة دفعناه وأريناه الطريق الذي غدا ضحُوكاً، وقلنا له لقد عادتْ الطيور إلى أوكارها تغرّد كما غدا الماء يجرى صفوًا.وذاب النور وأوغل في أوصالنا. علينا أن نبلل شفتيه بقناديل السلسبيل كي يُروى من خريره الطروب، ونمسح بترياقه جبينه المكدود.

ونقول له: هيا وكفى قنوطاً، واثبت من رجفة الخوف وكُف عن انهمار الدمع.

لنأخذ بناصيته من الرغام، ونمسح جبينه من الذلة والعذاب، وننفث في أُذنيه، ونطلقه ممتطيًا جياد الحياة الجديدة.

وأخيراً …

علينا أن نقبّل أرجل الحمائم اعتذارًا، ثم نرسلهم برسائل السلام من مواقع ظفرنا إلى مشارق الأرض ومغاربها لتنشأ الحياة الجديدة. نحن، نحن، نحن المخلّصون.

 

بقلمى /ابراهيم امين مؤمن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى