خواطر وأشعار

طاقات اللغة وتناغمات الذات في قصيدة      ( الساعة تعلن ) للشاعرة ( منى الصفار ) 

طاقات اللغة وتناغمات الذات في قصيدة

( الساعة تعلن ) للشاعرة ( منى الصفار )

“””””””””””””””””

أ / بندر علي مجمل

 

تبتكر المخيلة الإبداعية أنساق متمظهرة للسياق النصي، بتداعيات لغوية راصدة للمكونات العميقة في خلجات الذات ، عن طريق التحولات الشاعرية وتنقلات الحواس التي تمازج نبرات البياض القصيدي ، بمدلولات متحركة بين البنية السطحية والبنية العميقة للنص ، لتمنحه أبعاد أحتمالية قابلة للتأويل المجسد لفوناميات الذات المبدعة ، المشفوعة بمورفولوجية الرؤى اللغوية ، بأعتبار اللغة طريق عبور من بوتقة الحلم والأنساق الفكرية إلى منتج إبداعي حي يجسد تلك الأنساق بمنظومة تشكيلية تصويرية مدججة بالمناخات الشاعرية الرجراجة والمتحركة في الفضاء النصي .و بما أن النص يعتبر مرآة عاكسة لذاتية صاحبة ، فأن قصيدة ( الساعة تعلن ) ل ( منى الصفار ) جسدت بإحترافية أحتمالات الترائي العابر لنفسية الذات المبدعة التي أسقطت ذاتها على النص بأمتدادات سراديب الذاكرة المتوهجة الممتدة على فضاءات النص بشكل مباشر ، وبمشاهد شاعرية تعري عمق ومكابدات الذات التي عكست حضورها الفعال بالنص بتدرج شفاف وصريح لمكابدات (الأنا الساردة ) المتناغمة مع الذاكرة السردية التي تغلب عليها النبرة اليائسة المتشظية المدججة بالأكتئاب العميق المستخلص من البؤرة الزمنية القاهرة والأكثر قساوة

بكينونة ( الإنتظار) القاسية وما يعتريها من توترات وقلق .

وأولى وقفاتي على العنوان باعتباره بوابة الولوج إلى النص ( الساعة تعلن ) بطابعه الزمني المجهول ، فالعنوان يضج بطاقة تعبيرية ودلالية عالية ، وهذه الطاقة تقود الفضاء الزمني المهيمن باتجاه بؤرة خيالية مشفرة. والزمن المبهم ، و تكشف وظائف متعددة لدلالة ( الساعة ) الزمنية الغير محددة والتي أتسعت رغبتها الراصدة للبعد التأويلي المفتوح تداعيات المسند اليه ( تعلن ) التي تتكور في وحدة دلالية مبهمة تجعل المتلقي يجول بين تسألات متعددة عن ماهية الساعة والإعلان ، الخاضعة لفجوى مختزلة من الزمر وإبعاد المفتوحة ، فسمات العنوان وآلياته تعكس لنا أهتمام الشاعرة بالزمن ورصد دلالاته .

وإذا وقفنا لحظة مع المخاطبة العنوانية لوجدنا إنها مخاطبة خيالية عقلية رمزية الغرض منها مخاطبة فكرية لما وراء الأحداث، وهذا ما يقيس لنا نجاح الشاعرة بتعامل

مع الألفاظ ومدلولاتها ، وتقمص الألفاظ المعبرة بالسير نحو المجهول ( تعلن ) .

و تكشف الإستهالة النصية تجليات متنامية. للبعد الذاتي العاصف بمكونات إشارية لمضمر الحوار الصامت لإحداث متفاعلة لأنائين متضادين و متصارعة داخل أنا واحدة. ( لم أكن أموت.ـ لم أكن أتلاشى ـ كنت أبك ـ فقط كنت أبك ) هذه الإستهالة الفريدة مكثفة بالبعد النفسي المكثفة بالطاقة اللغوية الإنفجارية التي تعكس لنا الحالة النفسية ( للأنا المتكلمة ) المرتكبة التي جعلتها تبادر بطرح المكابدات بشكل مباشر ( لم أكن أموت .. ) وكانها تشرح ( للأخر ) عن حالها أو تجيب عن سؤال مطروح لها ؛ بسياق تركيبي مبهر .

 

وأنا أجول في فضاء هذا النص ، أنتابني أحساس غريب قادني لتفكير في كيفية تعامل الشاعرة مع اللغة بطاقاتها العالية التي تتفجر من خلال تحرير المفردات والتركيب ، و لاحظنا أيضاً إنها حاولت تكثيف لغتها الشعرية في القصيدة تكثيف جميل .

و لا أجد غضاضة في القول أن النص يرمز إلى بنى دلالية مشفرة وقوة ترميزية كبيرة لا حصر لها بألفاظ منتخبة تشكل عنوان لأنكسارات زمنية كامنة بموقف معين قاهر ( لم أكن أموت ـ لم أكن أتلأشى ) فأحرف هذه الألفاظ تقاوم الانكسار والترميد بكينونة أسلوب النفي ، فهي إستخدمت حرف النفي ( لم ) بكينونته الجازمة للنفي القاطع وتزيده تاكيد بأستخدام لفظ ( أكن) الدال على التخصيص والتأكيد لتجعل من أسلوب النفي نفي مؤكد ، لغرض نفي الموت والتلاشي عنها ببلاغة عالية تعكس لنا التأكيد الحدثي لحدث ( الموت ـ التلاشي ) كلاً على حدة وبجملتين متتاليتين. بخصائص أسلوب النفي القائم على حركة الرفض للمكونات المنفية ( الموت التلاشي ) .

وقد شكلت هذه الطاقة من الألفاظ نفي الترميد الذي يقود الى الهلاك على ( الأنا المتكلمة ) بمحاولة منها رسم صورة غير مألوفة تصور فيها حالة الرفض من جهة وحالة الأعتراف من جهة أخرى الذي عكس لنا شيء آخر تعايشه الأنا بتداخل أسلوبي مرتكز على حركة الثنائيات الضدية ( كنت أبك فقط كنت أبك ) فهذة الجملة بسيروة أسلوب التوكيد المرتكز على التوكيد اللفظي تعكس لنا حدث مؤكد أستسلمت له الأنا المتكلمة ( أبك ) بعبارات فاضحة لواقعها المعاش ، وكما قلنا إنها تأكد نفي الحدث السابق ، إلا إنها تأكد حدث أخر معاش ( أبك ) بتوكيد رقيق يملأه الحسرة والأسى (فقط كنت أبك ) بتوكيد مؤكد بألفاظ الأختصاص ( أكن كنت ) العائد على ذات الأناالمتكلمة .

ويعكس لنا هذا المقطع نمو القصيدة وأزدهارها بجماليات القيمة المؤثرة في نفسية المتلقي بإسقاطات ذاتها المبدعة على سيرورة النص بألفاظ تخصص الفعل على ذاتها بمشاهد ذاتية ملبدة بالتقهقر والأنكسار لصور عكسية غير متوقعة لحركة صراع داخلي ( أكن ـ كنت ـ أستدير ـ أهظم ـ ألوك ـ أتساقط ) وبين الفعل والفاعل والمفعول به حركة محورية مستديرة توحي بايدلوجيه الصراع داخل دائرة الذات نفسها من خلال تأكيد حسراتها على ذاتها ( وجهي ـ جيدي ـ أحشائي ـ شفاهي ـ ظهري )

الفعل. الفاعل. الذي وقع علية الفعل

أستدير. أطعن الأنا. ظهري

أتجرد. الأنا. جيدي

أهظم. الأنا. أحشائي

ألوك. الأنا. شفاهي

بإيضاحات لغوية مخصصة تفسر ظاهرة متبلورة في كينونة الذات. بمخاطبة لغوية قائمة على عنصر الحوار الداخلي ( مونولوج ) رمزية متجة نحو مخاطبة ( الأخر ) المجهول المعني بالتوجيه الخطابي .

و لا شك أن الأنا المتكلمة أنا منكسرة منغلقة على ذاتها و متلاشية تعكس لنا حالة من الأغتراب النفسي والزمني ، ونوع من الانكسار و التشظي لمرارة. الحالة الراهنة .

و إذا تفحصنا النص تفحصاً دقيقاً لوجدنا أنها ترسم لنا لوحة انكسارية متعددة الألوان. ( وجهي عار لا ملامح تغطيه ) هذه الحالة تفجير لغوي ودلالي بشكل يجعل الخطاب الشعري أكثر تأثيراً ليتعايش المتلقي مع مرارة المعاني و حركة التعري الذي يدل على ضعف الشخصية بشكل بارز وجلي من خلال إسناد التعري إلى الوجه ( وجهي ) لما يحمله الوجه من دلالة ظاهرة ترتسم على قسماته كل التعابير والأنفعالات وغيرها ؛ وهذه الصورة المبتكرة تشكل حالة من الضعف والأنهيار المرتسمة على أبرز الأعضاء الشكلي للجسم .

أما أسناد الفعل ( أستدير) للأنا عكست نوعاً من الأستسلام. (لكي أطعن ظهري ) بمحاولة من خلال الحركة الاستدارية التخبط بطريقة غير مألوفة ، لإسقاطات أحاسيسها ورفض الواقع. ، وتكمن لغة ( أستدير لكي أطعن ظهري ) لغة حصار ذاتي لتجسيد الحالة النفسية القاهرة والأكثر قساوة .

أما أسناد الفعل ( أتجرد ) إلى الجيد الذي يرمز إلى موضع الجمال ( أتجرد من جيدي ) يعبر عن تجرد الأنا من ملامحها الجميلة ورضوخها للهزيمة بحركة تنازلية توحي بلأستسلام وتلاحق الهزائم من خلال تتبع الأفعال المضارعة بكينونتها الزمنية المنطلقة صوب المستقبل والتجديد ( أستدير ـ أطعن ـ أتجر ـ أهظم ـ أتساقط ) بمشاهد ذاتية عنيفة لصورة تعكس نوعية الصراع الداخلي وتضاربات تجاذب العنف بذاتية الأنا المتكلمة ( أستدير لكي أطعن ظهري ـ أتجرد من جيدي ـ أهظم أحشائي ـ ألوك شفاهي ـ أتساقط ) إذ أن أسند الأفعال إلى الذات المتكلمة نفسها تعكس لنا الحالة النفسية لها بتشظي قاهر لأنا متسلطة مستبدة تمارس جلد الذات مع نفسية وتفرض حصاراً خافق على كينونتها المتوترة والمتفاعلة مع النسق الزمني والمكاني للحدث القاهر بصورة توحي بحركة التخلص من مكوناتها الذاتية والأنغلاق على ذاتها المرمدة بدلالة ( أهظم أحشائي) وبحركة توحي بشدة التوتر والانفعالات النفسية الشديدة تتواكب مع حركة ( ألوك شفاهي ) بدلالتها العنيفة المصحوبة بعنفوان الموقف وشدة الأنفعال الصادم .

وتتسلل الأحداث النفسية العنيفة بكينونة الترميد بحركة مثيرة لتسلل الانهزام الى عمقها المنكسر ( أتساقط ـ صوتي يختنق ويغترب ) وما يحمله من دلالة تعكس بالأستسلام القاهر والحتمي المصحوب بالحزن الخانق والبكاء وبنبرة حزن تفجر الأشجان الدفينة الصارخة وتعكس حالة من الاغتراب النفسي والأنكسار.

وتأتي النهاية الوشيكة بإعلان صريح لهزيمة الأنا المتكلمة وأنتصار الأنا الأخر و أحتراقها أحتراق مرمد ( لا شيء سوى النار ) بأستراتيجة أسلوب الاستثناء المتوهجة التى منحت الحدث بعد فني وبلاغي جذاب قادر على جذب تعاطف المتلقي مع الذات المتكلمة .

ولو نظرنا إلى الخاتمة لوجدنا أن لها أرتباط مباشر مع العنوان ، بحركة أستدارية مبتكرة إستطاعت الشاعرة ربط لفظ ( الإنتظار) مع كينونة العنوان ( الساعة ) وكانها تقول كل هذه الأحداث مشهد لواقع معاش ساعة الإنتظار بصيغة شعرية جذاب وربط فاضح لماهية الإعلان المشار الية بالبنية الدلالية للعنوان من خلال الاستنتاجات الدلالية الرافدة للحالة المعاشة في البؤرة الزمنية الخانقة التي حصرتها الشاعرة بين لفظين ( الساعة ــ الإنتظار ) ليبادر لذهنية المتلقي من سيرورة النص طبيعة الإعلان المدجج بالحرقة والخيبة بإشارة واضحة لأسنتاجات النتائج الغير متوقعة الخاضعة للهيمنة العكسية والنتائج الغير متوقعة .

حقاً أنها إستطاعت أن تبني هرماً دلالي للمعاني المستنبطة من سياق نصي مختصر مشبع بالأبعاد التأويلية الواسعة والثراء الفني الراقي .

و من منطقي هذا نستظيع أن نقول أن النص تحمل الطابع النفسي لبنية النصية بمعطيات لغوية فذة

أ بندر علي مجمل ـ اليمن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى