مقال

ظاهرة بيكا وشاكوش وأورتيجا..

ظاهرة بيكا وشاكوش وأورتيجا..

بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري . المحامي

ليس من الحكمة في بلد يحترمه العالم كله .. أن نحمل بيكا وشاكوش وأورتيجا – ومن على شاكلتهم من النتوءات السرطانية ….. التي انتشرت في جسد الفن بهذه الكيفية – انهيار الذوق العام ، وتدمير الشباب ، وضياع الهوية ….. بأغانيهم الهابطة ، وألفاظهم السوقية ، وأساليبهم المنحطة التي أساءت إلى الشعب والدولة .. دون معالجة الأسباب الحقيقية … التي أدت إلى انتشار هذه الظاهرة السلبية ، وذلك بإعادة النظر في علاقة الفن بالحياة السياسية على مدى العهود الماضية …. ومعرفة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي ظهرت فيها تلك الملوثات السمعية والبصرية …. وليس من الفطنة أن نكتفي بوضع مسكنات وقتية … لهذه الظاهرة السلبية التي لا تقل خطرا على المجتمع المصري عن الجرائم الإرهابية .. بل لابد أن نتناولها بالبحث والدراسة منذ بدايتها الحقيقية ، ونجتث أسبابها من جذورها الأساسية .. خاصة بعدما وصل الاستياء الشعبي من هذه الظاهرة إلى درجة لا يليق بدولة في حجم مصر تجاهلها أو السكوت عنها أو تأجيلها .

أما التسليم بالمقولة الشائعة “الجمهور عاوز كده” فهو مغالطة كبرى ، واستخفاف بعقول أبناء هذه الأمة .. ذلك لأنها مقولة مكذوبة وليس لها أي أساس من الصحة لسبب بسيط للغاية أن الجمهور في الحقيقة أصيب بحالة إحباط شديدة … بعدما خلت أمامه القمة من العمالقة ، ولم يجد مفرا من البحث في القاع …… لعله يجد فيه من يدخل على نفسه البهجة التي حرم منها سنوات طويلة ….. لكنه وجد القاع مزدحما بأشكال متخلفة عليها علامات استفهام متعددة ….. من عينة بيكا وشاكوش وأورتيجا ، وفيجو ومزراب وأوكا ، ومحمد رمضان ورامز جلال ، وشلاطة وكماشة وحنجرة وكاريكا ، ووزة وسمارة وشطة وريشة وحاحا ، وزرادية وكزبرة وشواحة وسوسن العاطفية وغيرهم من العاهات التي تحرك الشهوات ، وتحرض على الفسق والفجور ، وتروج للخمور والمخدرات ، وتشجع على العنف والبلطجة فحولت الفن من رسالة إلى مفسدة في ظل غياب تام لدور الدولة .

وبناء على هذه الرؤية المتواضعة … وانطلاقا من قواعدها البسيطة …. أقول نحن في أمس الحاجة إلى تدخل الدولة لضبط هذه المنظومة … وإعادة النظر في الحسابات المحيطة بها كافة …. من أجل المحافظة على القيم المصرية الموروثة ، واستعادة الأمجاد الفنية المفقودة …. وفيما أرى لن يتحقق ذلك إلا بمواجهة هذه الظاهرة من خمسة محاور … أولها يتمثل في إجراء تعديلات تشريعية حاسمة …. وثاني هذه المحاور يتمثل في اتخاذ قرارات تنفيذية صارمة … أما المحور الثالث فيتمثل في قيام الأجهزة الرقابية باستعادة الوجه الحضاري للأعمال الفنية والمحور الرابع هو إطلاق حملة إعلامية توعوية شاملة … أما المحور الخامس والأخير فلاشك يتمثل في إعادة النظر في علاقة الفن بالحياة الاجتماعية ، والاقتصادية ، والسياسية .

أولا : بالنسبة للتعديلات التشريعية …. فقد أمسك المهندس محمد فرج عامر – عضو مجلس النواب عن محافظة الإسكندرية ورئيس لجنة الصناعة – بزمام المبادرة منذ عدة شهور عندما تقدم لمجلس النواب بمشروع قانون جديد لتغليظ العقوبة الواردة في قانون العقوبات من الغرامة 500 جنيه إلى السجن الوجوبي من سنة إلى 3 سنوات … على جريمة خدش الحياء بالقول ، أو الفعل ، أو الإيحاء … سواء في التعاملات الحياتية ، أو في الأعمال الفنية .

وأما بالنسبة لنقابة المهن الموسيقية .. فقد أصدرت أخيرا قرارا بإيقاف قائمة تضم 19 من مطربي المهرجانات عن الغناء وهذا لا يكفي .. فما زال المجتمع المصري يغلي بجميع طوائفه وكافة فئاته وطبقاته … وهو ينتظر من النقابات الفنية الثلاثة “السينمائيين والممثلين والموسيقيين” مواقف أشد صلابة ، وقرارات أكثر حدة .. نظرا لخطورة ما تقدمه هذه الفئات الضالة …. من أعمال فنية قذرة تفسد الشباب ، وتخدش الحياء ، وتشوه الذوق العام ، وتهدم القيم ، وتشيع الفاحشة ، ومن ثم تؤثر سلبا على مستقبل الأسرة ، وتقلل من هيبة الدولة .

أما المسئولين في الأجهزة الرقابية على المصنفات الفنية – الذين لم نسمع لهم صوتا ….. ولم نقرأ عنهم خبرا ….. ولم نر لهم تصريحا يدين هذا الانحطاط الفني المهين الذي انتشر هذه الأيام كالنار في الهشيم – وكأن هذه القضية الخطيرة لا تدخل في صميم اختصاصهم .. عليهم ألا يكتفوا بتقييم النصوص الفنية التي تعرض عليهم وهم قابعون في مكاتبهم المخملية .. وكأنهم يعيشون في كوكب آخر غير هذا الذي نعيش فيه .. بل يجب عليهم أن ينزلوا إلى الشارع .. لاستكمال مهمتهم الرقابية بتقييم الأداء الفني مباشرة على أرض الواقع في الاحتفالات والمهرجانات ، وألا يتركوا الجمهور المصري عرضة لمشاهدة الأعمال الفنية الهابطة .

وفيما يخص المؤسسة الإعلامية متمثلة في التلفزيون الرسمي فالوضع مختلف تماما حيث ضربت برامجه الحوارية بعرض الحائط المطالب الشعبية بحماية الذوق العام وإنقاذ الهوية .. حينما قامت منذ عدة شهور بحملة إعلامية مضادة …….. تمثلت في دفاعها الغريب المريب عن الفنون الهابطة … من خلال استضافتها بحفاوة شديدة لأحد ممثلي أدوار البلطجة الذي دمر جيل بأكمله … ومنحته فرصة للدفاع عما يقدمه من أعمال قذرة ….. تشجع على ارتكاب جرائم العنف والبلطجة .. وليس أدل على صحة ذلك … من تلك الجريمة البشعة التي وقعت أحداثها الدامية في إحدى الكافيهات في محافظة الشرقية منذ عدة سنوات …… وراح ضحيتها عدد كبير من القتلى على يد أربعة من الفتية مسلحين ببنادق آلية سريعة الطلقات …. وحينما سئل كبيرهم أثناء التحقيق عن الأسباب التي دفعته لارتكاب تلك الجريمة البشعة أجاب بمنتهى البساطة بقوله أنا “حبيشة” !! .. لكن المؤسف حقا أن هذا اللقاء التلفزيوني تم في نفس اليوم الذي قام فيه مشكورا الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي بتكريم العالم الجليل حبيب الملايين المصري الأصيل الدكتور مجدي يعقوب .. في حفل مهيب وقلده أرفع وسام في دولة الإمارات العربية الشقيقة .. دون تغطية إعلامية تليق بهذه القيمة العلمية ، والقامة الوطنية .. على شاشة التلفزيون المصري .

وكي نفهم طبيعة الدور المأمول من أجهزة الدولة في هذه المرحلة لمعالجة الأسباب الأساسية التي أدت إلى تفشي هذه الظاهرة السلبية ، وحتى تكتمل أمامنا الصورة المعاشة بكافة أبعادها الحقيقة .. ومن ثم نصبح أكثر قدرة على تكوين رؤية مستقبلية لحياة متحضرة خالية من الفنون الهابطة لابد من إعادة النظر في علاقة الفن بالحياة السياسية على مدى العهود الماضية وتسليط الأضواء على ما أحاط بها من ظروف اجتماعية واقتصادية .. كان لها عظيم الأثر إيجابا أو سلبا على الأخلاق ، والعلوم ، والقيم ، والفنون المصرية .. وهذا هو المحور الخامس والأخير .

ولتكن البداية منذ قيام ثورة 23 يوليو سنة 1952 م المجيدة على الملكية الفاسدة ، والفئة المستغلة ، والطبقية البغيضة …. فكان العصر الذهبي في ستينيات القرن الماضي .. تلك الحقبة الخالدة التي قادت نهضة زراعية وصناعية واجتماعية كبرى …. ورفعت راية المساواة في الحقوق والواجبات المكتسبة بحكم المواطنة …. وبنت المصانع العملاقة على امتداد خريطة الأوطان من المنزلة لغاية أسوان ….. فأصبح شعار “صنع في مصر” عنوان المرحلة ، وأصدرت قانون الإصلاح الزراعي فأرست بذلك مبادئ العدالة الاجتماعية بعد مرور أربعين يوما فقط من قيام الثورة ، وأقرت مجانية التعليم للمصريين كافة …. وجعلت للثقافة وزارة ، ودورا ومكانة ، وميزانية مستقلة ، لأول مرة في تاريخ الدولة ….. فسطعت النجوم المصرية في شتى المجالات العلمية والفنية والثقافية .. لتحتل عن جدارة مواقع الصدارة في شتى أنحاء الكرة الأرضية …….. وهذا ليس غريبا على حقبة كان ديدنها العزم والتصميم والهمة ، فلم يكن هنالك وقتا للطبطبة ، ولم يكن هنالك مجالا للميوعة ، أو الإسفاف ، أو الخلاعة ….. وخير دليل على ذلك هو موقف الدولة من “مسابقة أبو عيون جريئة” التي أطلقها بعض شباب الجامعة في الإسكندرية .. حيث كان رد فعل الدولة حينئذ حاسما وسريعا للغاية عندما أصدرت قرارا بتجنيد أولئك الشباب لمدة ثلاثة شهور في القوات المسلحة الباسلة لإعطائهم درسا في الخشونة ، وتعليمهم كيف تكون الرجولة ….. وبعد الانتهاء من تلك التجربة الشاقة ….. اعترفوا بأنهم كانوا في غفلة .. وأدركوا بأن للرجولة مقومات عديدة ليس من بينها العيون الجريئة .. فكانت النتيجة أنهم تحولوا من النقيض إلى النقيض ……. وأصبحوا من ذوي الكفاءات في جميع المجالات وهكذا كانت تدار الدولة في عصر الستينيات .

ثم جاءت حقبة السبعينيات بسياسة الانفتاح الأعمى … فحولت مصر من قلعة صناعية معتبرة إلى سوق استهلاكية كبرى …. لبيع مخلفات الدول الأجنبية على حساب منتجات الصناعة المصرية في تراجع واضح عن أهداف الثورة …. وبدأت تتكون الفئة المستغلة مرة أخرى …. لكن بوجوه جديدة وضوابط مختلفة ومسميات مستوردة .. حيث تلاشت من لغتنا الجميلة بعض المصطلحات المتداولة وحلت محلها أخرى مستوردة … ولم نعد نسمع أحدا يطلق على الأغنياء “كبار التجار” بعدما شاع استعمال مصطلح “رجال الأعمال” …….. ومنذ ذلك الوقت ذهبت الأخلاق إلى غير رجعة ، وحلت محلها الفهلوه ، وأصبحت الكفاءة موضة قديمة …… أمام قانون الشطارة الذي فرضته قواعد اللعبة الجديدة ، فاحترفنا الغش والنصب والسرقة ….. وتعلمنا اللعب على الحبال لمواكبة مسيرة المرحلة وعرفنا لعبة التلات ورقات …… وتعودنا على الهمبكة ، وطربنا لأغنية “السح الدح امبو” وظهرت أفلام المقاولات …… وانتشرت موضة الخنافس … ولم تعد لغة الشباب ، وهيئته ، وطريقة حياته .. تعبر عن مجتمعنا المحافظ …… فوقعت الأمة المصرية صاحبة أقدم الحضارات في تاريخ البشرية بين شقي رحى مجتمع له قيمه وعاداته وتقاليده ، وفئات شمال اسما على مسمى .. لا هم لها سوى التقليد الأعمى …. لكن تلك الحقبة سيئة السمعة لم تكتف بسياسة الانفتاح الاقتصادي للقضاء على إنجازات الستينات .. وهدم الاقتصاد الوطني .. بل عمدت إلى مواجهة التفكير بالتكفير … فتقمصت – من حيث لا تدري – دور صاحب الدبة في القصة الشهيرة التي أصبحت مثل شعبي …… عندما ارتدت ثوب الفضيلة ……. وشجعت التيارات المتشددة التي هبت علينا من وراء الخريطة لمحاربة الفكر الناصري … لكن سرعان ما ضربت تلك التيارات جزورها العفنة في أرضنا الطيبة فشوهت أفكارنا المعتبرة ، ولوثت أجواءنا المعتدلة ، وأحيت النعرة الطائفية ، وأشعلت نار الفتنة ……. وفي النهاية قتلت الدبة صاحبها غدرا شر قتلة … بعدما اتهمته جهلا بالخروج من الملة ….. لكن الأعجب مما سبق أن أصحاب المنبع أدركوا الآن ما تمثله هذه التيارات المتشددة من خطورة …. إلا أن أهل المصب ما زالوا حتى هذه اللحظة يعيشون في غيبوبة !! .

أما مرحلة الثمانينيات التي استمرت ثلاثة عقود عجاف فهي الأكثر فسادا على الإطلاق حيث كانت لها مساوئ عديدة .. على رأسها الفساد ، والظلم ، والاستبداد ، والواسطة ، والرشوة ، والمحسوبية أما أقبحها فكان بيع القطاع العام بأثمان زهيدة للحاشية وأركان النظام .. والدائرة المقربة من رجال الأعمال … يليها إهمال ملفي التعليم ، والصحة .. ثم فشل سياسة تنظيم الأسرة مما أدى إلى انتشار المناطق العشوائية ، وتفشي الأمراض المستعصية .. أما دور الطاغية المخلوع في الحرب فلا يزيد أو يقل عن دور غيره من أعلى رتبة إلى أصغر جندي في خير أجناد الأرض ……. ولا يمكن لدوره العسكري أن يغطي على فساده المالي والسياسي والإداري …. الذي أدي إلى ما شاهدناه من تدهور اقتصادي وتدني أخلاقي وتخلف اجتماعي .. ولم تكن أغنية ” كداب يا خيشة كداب قوي” دليلا على التردي الفني الذي شهدته تلك المرحلة …. بقدر ما كانت صدفة قدرية عبرت بتلقائية عن لسان حال أبناء الشعب المصري ، وجسدت موقفهم السياسي .. أمام إصرار الدكتاتور المخلوع على البقاء في السلطة مدى الحياة كما كان يردد في خطاباته بقوله “إلى آخر نفس في صدري” …….. لكن العنوان الأكثر تبجحا وغباء وجهلا مما سواه لتلك الحقبة السوداء ….. كان ملف التوريث الذي أثار الشعب ، وأغضب الجيش ، وكان السبب الرئيسي في اشتعال الثورة التي لم يتبق منها سوى الذكرى ولولا كرم أخلاق الرئيس عبدالفتاح السيسي .. المتمثل في قرار العفو الرئاسي عن اسم الرئيس المخلوع الذي عاش حرامي ومات حرامي بحكم محكمة نهائي ……. لسحبت الدولة منه النياشين ، واستردت الأوسمة .. ولما أقامت له جنازة عسكرية حضرها القاصي والداني …. وهنا تكمن المفارقة العجيبة الغريبة بين تلميع اسم الرئيس المخلوع والإبقاء على نياشينه وأوسمته بموجب العفو الرئاسي وكأن شيئا لم يكن … وبين تفنيد منجزاته واعتبار عهده الأكثر فسادا على مر العصور السابقة .. كما جاء في النعي الرسمي الذي أذاعه التليفزيون المصري .

ثم جاءت مرحلة البناء والتعمير والإصلاح والتطوير تحت قيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي … الذي يخوض عدة حروب في وقت واحد ضد الفساد ، والتخلف ، والإرهاب .. وهذا ليس غريبا على هذه القيادة التي لا تعرف الحلول المؤقتة، ولا تنتهج سياسة الوعود البراقة، ولا تتردد لحظة في القضاء على المشاكل المزمنة التي تعرقل مسيرة التنمية …. ولا تدخر جهدا في سبيل رفعة الوطن وحماية الأمة .. والخلاصة نستطيع القول بلا أدنى مجاملة …. أن إنجازات هذه المرحلة غير قابلة للمقارنة .. ولا يؤخذ عليها شيئا سوى رفع الدعم بدون رحمة ….. عن السلع الأساسية والخدمات الضرورية ، وما ترتب عليه من زيادة أعباء المعيشة على الطبقة الفقيرة التي تتمدد بسرعة مخيفة .. لكن يجب علينا جميعا ألا ننسى أن هذه المرحلة فتحت ملفات فساد الحرامية الكبار المسكوت عنها من زمان ، وما قضايا الرشوة المتوالية التي تضبطها الرقابة الإدارية في أجهزة الدولة المختلفة إلا خير دليل على ذلك وشاهد عليه لذلك أقول إذا كانت مؤسسات الدولة في هذه المرحلة –كما نرى بأم أعيننا– في حالة صحوة وطنية شاملة ، وقياداتها على المستويات كافة من أعلى قمة هرم السلطة إلى أدنى وظيفة مهتمة بكل كبيرة وصغيرة …. فلماذا سمحت بانتشار ظاهرة بيكا وشاكوش وأورتيجا ؟ !! .. أم هي صدفة عمياء دفعت هذه النماذج المتخلفة إلى المقدمة ؟ !! .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى