مقال

الخنساء تماضر بنت عمرو ” جزء 2″

الخنساء تماضر بنت عمرو ” جزء 2″

بقلم / محمـــد الدكــــرورى

 

ونكمل الجزء الثاني مع الخنساء تماضر بنت عمرو، ويُروى أنها دخلت على أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها وهي تلبس صدارا من شعر الحيوان يغطي عنقها إلى سرتها، كان الجاهليون يلبسون هذا الصدار حدادا على الأموات، فقالت لها أم المؤمنين السيدة عائشة ماهذا يا خنساء؟ أما علمتي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؟ أجابتها الخنساء والله لم أعلم يا أم المؤمنين ولكن لهذا الصدار قصة دعتني إلى لبسه، فقالت حدثيني بهذه القصة، قالت الخنساء زوجني أبي لسيد قومه وكان رجلا مبذرا أسرف في ماله حتى أنفذه، فأتيت أخي صخرا استعينه، فقسم ماله شطرين وأعطاني أحسن الشطرين، ولكن زوجي عاد إلى إسرافه وتبذيره حتى أذهب المال، فقسم صخر ماله مرة ثانية وأعطاني أحسنه، فقالت له زوجته مغتاظة أما ترضى أن تعطيها النصف حتى تعطيها الخيار، فأجابها والله لا أمنحها شرارها.

 

وهي التي أرحض عني عارها ولو هلكت خرقت خمارها، واتخذت من شعر صـدارها، ومنذ ذلك الوقت آلت الخنساء ألا يفارق الصدار جسدها ما بقيت وفاء منها من ذكرى أخيها، الذي قاسمها ماله مرتين، وفي معركة القادسية وكان في صحبتها أولادها الأربعة، كان ذلك سنة الرابعة عشر للهجرة عندما أرسل أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب سعدا ابن أبي وقاص على رأس جيش لفتح العراق وتحريرها من الإمبراطورية الفارسية الغاشمة والتي استعبدت أهل العراق ففرضت عليهم الضرائب الجائرة وحرمتهم من العلم ومن الحرية الدينية ومن أبسط حقوق الحياة إلى جانب منعها دعاة الإسلام من الدعوة إلى الله تعالى في تلك البلاد، وسار جيش يعد للجهاد في سبيل الله تعالى حتى وصلوا إلى القادسية من أراضي العراق، وهناك التقى الجيشان جيش المسلمين وقائدهم سعد ابن أبي وقاص وجيش الفرس وقائدهم رستم.

 

وقد اختلف المؤرخون في عدد جيش المسلمين والأرجح أنهم بلغوا الثلاثين ألف مسلم، كما اختلفوا في عدد جيش الفرس، ما بين ستين ألفا والمائة ألف، وكان هذا عددا غير متكافئ فضلا عن أن مع جيش الفرس آلة قتال رهيبة لم يعهدها المسلمون من قبل ولم يألفوها، وعدد كبير من الفيلة يقال إنهم ثلاثون فيلا ويقال سبعون فيلا، وكان اليوم الأول من المعركة يوما شديدا على المسلمين حيث جعلت الخيول تفر بسبب رؤيتها للفيلة وسماعها لصوتها وشاركت الخنساء في معركة القادسية ضمن جمع النساء، فكن يخدمن الجيش ويطعمن ويسقين ويرعين أمور الجند ويرددن الجرحى والقتلى إلى معسكر المسلمين، وقد اغتم جميع من في الجيش رجالا ونساءا لما حدث في اليوم الأول من المعركة بسبب الفيلة، واجتمع سعد بن أبي وقاص قائد جيش المسلمين بكبار قواده يسألهم عن حيلة تمكنهم من التغلب على الفيلة، وفكر البعض عن حيلتين بارعتين.

 

أولهما أن يصوب بعض الرماة نبالهم إلى ركبان الفيلة الذين يركبون على الفيلة فينشغلون بصد النبال عن أنفسهم فيتسلل بعض الجنود إلى خلف الفيلة ليقطعوا الركائب المشدودة على ظهورها وبالتالي يسقط الذين على ظهور الفيلة، فقد أسفرت هذه الحيلة عن ارتفاع أصوات الفيلة وهيجانها يمينا وشمالا فضلا عن إصابة بعضها بالسهام، وأما الحيلة الثانية فهي إلباس بعض الإبل لباسا مبرقعا تظهر فيه الإبل شبيهة بالفيلة، مما جعل الفيلة تتوقف عن التقدم بين صفوف المسلمين، ثلاثة أيام مضت والحرب سجال بين المسلمين والفرس، لا غلبة لأحد الطرفين على الآخر، أحست الخنساء بالخطر الكبير الذي يحدق بالمسلمين وأدركت أن هزيمتهم أمام الفرس في هذه المعركة تعني اشتداد عود الفرس واستمرار طغيانهم واستبدادهم، وربما يجرهم هذا إلى التفكير في غزو المسلمين في عقل دارهم، لذلك لا بد من التضحية.

 

ولا بد من الاستبسال في سبيل نصرة دين الله، فإما النصر وإما الشهادة، فجمعت الخنساء أولادها الأربعة عشية الليلة الثالثة من ليالي المعركة وخطبت فيهم قائلة “يا بني إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله غيره إنكم لبنو رجل واحد كما إنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم وإنكم تعلمون ما أعده الله تعالى للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، سكتت الخنساء هُنيهة وهي تنظر إلى أولادها بعينين أغرورقتا بالدموع ثم تابعت تقول اعلموا يا أبنائي أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، والله تعالى يقول ” يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون” وفي اليوم الرابع من المعركة خرج أبناء الخنساء إلى لقاء العدو وهم يحملون معهم شحنات الحماس والإيمان والإخلاص التي زودتهم بها أمهم الخنساء، ما تزال كلماتها الأخيرة تجلجل في آذانهم.

 

الدار الباقية خير من الدار الفانية، الدار الباقية خير من الدار الفانية ، وفي ذلك اليوم الذي استشهد فيه أولاد الخنساء الأربعة تم النصر للمسلمين بعد قتال دام أربعة أيام، وقتل رستم قائد الفرس وفر جنود العدو لا يلوون على شيء، وبلغ الخنساء خبر استشهاد أولادها الأربعة مرفقا بخبر النصر على الأعداء، فماذا كان موقفها يا ترى؟ هل بكت كما بكت أخوالهم قبل الإسلام؟ هل نعتهم ورثتهم أسفا وحزنا وألما كما رثت أخويها من قبل؟ فإن من يمعن النظر في موقف الخنساء من استشهاد أولادها الأربعة في يوم واحد وموقفها قبل الإسلام في مقتل أخويها لا يصدق أنها نفس المرأة، نفسها الخنساء التي بقيت زمنا طويلا ترثي وتبكي أخويها، ورفعت يديها إلى السماء عندما بلغها نبأ استشهاد أولادها الأربعة في القادسية لتقول بلسان واثق وقلب مطمئن الحمدلله الذي شرفني باستشهادهم وإني لأرجو أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.

 

إنه الإيمان الذى يصنع المعجزات، الإيمان والرضا والاستسلام لقضاء الله كالكيمياء يغير طبائع الأشياء، رحم الله الخنساء، ورحم أولادها الأربعة، ورحم عمر بن الخطاب أمير المؤمنين الذي بادر صبر العجوز واستبسالها بالدفاع عن دين الله بالشكر والامتنان، فأجرى لها أرزاق أولادها الأربعة حتى قبض رحمه الله، وماتت الخنساء رضي الله عنها فى عام أربعة وعشرون من الهجرة، وعمرت إلى أن أدركت نصر الإسلام المبين كان موتها في عامها الحادي والسبعين، وقد طبقت شهرتها الآفاق، إن لم يكن ببكائها على أخواتها، فباستشهاد بنيها الأربعة، وماتت ومعها شاهد تضمن به تسجيل يوم موتها، وهو سجلات الدولة المدون فيها اسمها، لتستلم أرزاق بنيها الشهداء الأربعة من ديوان بيت المال، وكان عمر بن الخطاب قد قدر لها عن كل واحد مائتي درهم إلى أن قبض رضوان الله عليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى