مقال

هارون الرشيد وحادثة البرامكة “جزء 4”

هارون الرشيد وحادثة البرامكة “جزء 4”

بقلم / محمــــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء الرابع مع هارون الرشيد وحادثة البرامكة، وزينوه بالديباج والحرير، وعلقوا عليه الجواهر النفيسة، وكانت الفرس تعظمه وتحج إليه وتهدي له، وتلبسه أنواع الثياب، وتنصب على أعلى قبته الأعلام، وكانوا يسمون قبته الأوستن، وكانوا يسمون السادن الأكبر برمك، لتشبيههم البيت بمكة يسمون سادنه برمكه، فكان كل من ولي منهم السدانة سُمي برمكا، وكان ملوك الهند والصين وكابل وغيرهم من الملوك تدين بذلك الدين، وتحج إلى هذا البيت، وكانت سنتهم إذا وافوه أن يسجدوا للصنم الأكبر ويقبلوا يد برمك، وجعلوا للبرمك ما حول النوبهار من الأراضين سبعة فراسخ، فلم يزل برمك يلي النوبهار بعد برمك إلى أن افتتحت خراسان أيام خلافة عثمان بن عفان، وانتهت السدانة إلى برمك، فسار إلى عثمان مع رهائن، ثم رغب في الإسلام، فأسلم وسمي عبد الله.

 

ورجع إلى أهله وولده وبلده، فأنكروا إسلامه، فأجابهم برمك إني إنما دخلت في هذا الدين اختيارا وعلما بفضله من غير رهبة، ولم أكن لأرجع إلى دين بادي العوار مهتك الأستار، فغضب عليه أحد الملوك اسمه نيزك طرخان، وزحف إليه في جمع كثير، فكتب إليه برمك قد عرفت حبي للسلامة، وإني قد استنجدت الملوك فأنجدني، فاصرف عني أعنة خيلك، وإلا حملتني لقاءك، فانصرف عنه، ثم استغره وبيته فقتله وعشرين من بنيه، فلم يبقي له سوى طفل وهو برمك أبو خالد، فإن أمه هربت به إلى أرض القشمر من بلاد الهند، فنشأ هناك وتعلم علم الطب والنجوم وهو على دين آبائه، ثم إن أهل بلاده أصابهم الطاعون، فكتبوا إلى برمك حتى قدم إليهم، فأجلسوه في مكان آبائه وتولى النوبهار، ثم تزوج برمك بنت ملك الصغانيان، فولدت له الحسن وبه يكنى.

 

ويقول الحموي كان برمك يعكر النوبهار ويقول به، وهو اسم لبيت النار الذي ببلخ يعظم قدره بذلك، فصار ابنه خالد بن برمك بعده، وقد اختلف في معبد النوبهار فقيل أن النوبهار بيت من بيوت النار، وقيل أنه أحد بيوت الأصنام، وقيل أن النوبهار بيت من بيوت الأصنام والنار في آن واحد، وقد قيل أنه كان يحيى بن خالد البرمكى من أكمل زمانه أدبا وفصاحة وبلاغة، وقد روي عنه أنه قال ما رأيت رجلا قط إلا هبته حتى يتكلم، فإن كان فصيحا، عظم في صدري، وإن قصر سقط من عيني، وقد أورد الجهشياري بعض المآثر من كلام يحيى، مثل قوله التعزية بعد ثلاث تجديد للمصيبة والتهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمودة، وقال رسائل المرء في كتبه أدل دليل على مقدار عقله، وأصدق شاهد على غيبه لك ومعناه فيك من أضعاف ذلك على المشافهة والمواجهة.

 

وقوله مطلك الغريم أحسن من مطلك الكريم، لأن الغريم لا يسلف إلا من فضل، والكريم لا يطلب إلا من جهد، وقوله البلاغة أن تكلم كل قوم بما يفهمون، وقوله لو كلف الله العباد الجزع دون الصبر كان قد كلفهم أشد المعنيين على القلوب، وعندما سجن يحيى قثد وجه إلى الرشيد رسالة استعطاف بليغة وقال فيها من الحبس لأمير المؤمنين وخلف المهديين وخليفة رب العالمين، من عبد أسلمته عيوبه وأوبقته ذنوبه وخذله شقيقه ورفضه صديقه وزال به الزمان ونزل به الحدثان وحلّ به الضيق بعد السعة والشقاء بعد السعادة وعالج البؤس بعد الدعة ولبس البلاء بعد الرخاء وافترش السخط بعد الرضى واكتحل السهود وفقد الهجود، ساعته شهر وليلته دهر، وقد عاين الموت وشارف الفوت، جزعا يا أمير المؤمنين قدمني الله قبلك من موجدتك وأسفا على ما حرمته.

 

من قربك لا على شيء من المواهب، لأن الأهل والمال إنما كانا لك وعارية في يدي منك، والعارية لا بد مردودة، فأما ما اقتصصته من ولدي فبذنبه وعاقبته بجرمه وجريرته على نفسه فإنما كان عبدا من عبيدك لا أخاف عليك الخطأ في أمره ولا أن تكون تجاوزت به فوق ما كان أهله ولا كان مع ذلك بقاؤه أحب إلي من موافقتك، فتذكر يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك وحجب عني فقدك، كبر سني وضعف قوتي وارحم شيبتي وهب لي رضاك عني ولتمل إليّ بغفران ذنبي، فمن مثلي يا أمير المؤمنين الزلل ومن مثلك الإقالة، ولست أعتذر إليك إلا بما تحب الإقرار به حتى ترضى، فإذا رضيت رجوت أن يظهر لك من أمري وبراءة ساحتي ما لا يتعاظمك معه ما مننت به من رأفتك بي وعفوك عني ورحمتك لي، زاد الله في عمرك يا أمير المؤمنين وقدمني للموت قبلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى