مقال

هارون الرشيد وحادثة البرامكة “جزء 8”

هارون الرشيد وحادثة البرامكة “جزء 8”

بقلم / محمــــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء الثامن مع هارون الرشيد وحادثة البرامكة، قال فقال الناس في البرامكة فأكثروا، وكان ذلك أول ما ظهر من تغير حالهم، وهكذا فقد كان البرامكة يعيشون في ترف شديد جدا، حتى أنهم كانوا يبنون قصورهم ويضعون على الحوائط بلاط الذهب والفضة، وبنى جعفر بيتا له كلفه آلاف كثيرة من الدراهم، وكان الرشيد في سفر ذات يوم، فلم يمر على قصر ولا إقليم ولا قرية إلا قيل له هذا لجعفر، وعندما عاد الفضل من حربه في الديلم أطلق لمادحيه ألف ألف درهم، هذا السرف جعل الرشيد يتابعهم في الدوواوين والكتابات، فأكتشف وجود خلل كبير في مصاريف الدولة، وذكر أن الرشيد أمر مسرورا مولاه أن يضرب الفضل بن يحيى مائتي سوط لإخفائه الأموال عنه، ولما بلغ الرشيد أن ليس لديهم شيءا من المال والجواهر قال وكيف وقد نهبوا مالي وذهبوا بخزائني.

 

والفضل بن الربيع كان من موالي العباسيين، وكان شديد العداء للبرامكة، ويقال أنه هو الذي سعى بهم عند الرشيد وأظهر عيوبهم، وغطى محاسنهم، ووضع عليهم العيون، حتى استطاع أن يرصد حادثة هروب يحيى الطالبي عند جعفر، فأخبر بها الرشيد، وزين له أن البرامكة يريدون الخلافة للطابيين، قال ابن خلكان، أن أبو العباس الفضل بن الربيع بن يونس بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة، واسمه كيسان، فلما آل الأمر إلى الرشيد واستوزر البرامكة، كان الفضل بن الربيع يروم التشبه بهم ومعارضتهم، ولم يكن له من القدرة ما يدرك به اللحاق بهم، فكان في نفسه منهم إحن وشحناء، قال عبيد الله بن سليمان بن وهب إذا أراد الله تعالى هلاك قوم وزوال نعمتهم جعل لذلك أسبابا، فمن أسباب زوال أمر البرامكة تقصيرهم بالفضل بن الربيع وسعي الفضل بهم وتمكنه من المجالسة مع الرشيد.

 

فأوغر قلبه عليهم ومالأه على ذلك كاتبهم إسماعيل بن صبيح حتى كان ما كان، فلما اعتزم الرشيد أن ينكب البرامكة، كان قد قرر بعد طول التفكير أن لا يظهر ذلك لأحد وقد نادى جعفر بن يحيى كما كان ينادي من قبل وسلم عليه فأجابة السلام أحسن رد، ورحب به، وضحك في وجهه، وأجلسه في مرتبته، وكانت مرتبته أقرب المراتب إلى أمير المؤمنين، ثم حدثه وضاحكه، فأخرج جعفر الكتب الواردة عليه من النواحي فقرأها عليه، وأخذ رأي الرشيد فيها، وقضى حوائج الناس، ثم استأذنه جعفر في الخروج إلى خراسان في يومه هذا، فدعا الرشيد المُنجّم كما كان ينادي عليه من قبل ليسألة في بعض أمورة فقال المُنجّم هذا يوم نحس، وهذه ساعة نحس، ولا يبعد أن يكون الرشيد اتفق مع المُنجم على ذلك ليصده عن السفر، ومع ذلك فكان جعفر يعلم أيضا شيئا من التنجيم، فأخذ الإسطرلاب من يد المُنجم.

 

وقام وحسب النجوم فرآها حقا ساعة نحس، ثم قام وانصرف إلى منزله، والناس والقواد والخاصة والعامة يعظمونه من كل جانب، إلى أن وصل إلى قصره في جيش عظيم، فلم يستقر به المجلس حتى بعث إليه الرشيد مسرورا الخادم، وقال له امضي إلى جعفر، وائتني به الساعة، وقل له جاءت إلينا كتب من خراسان، والخليفة يريد رأيك فيها، فإذا دخل الباب الأول فأوقف الجند، وإذا دخل الباب الثاني فأوقف الغلمان، وإذا دخل الباب الثالث فلا تدع أحد يدخل عليه من غلمانه، بل يدخل هو وحده، فإذا دخل صحن الدار فميل به إلى القبة التركية، ثم اضرب عنقه، وائتني برأسه، ولا توقف أحدا من خلق الله على ما أمرتك به، ولا تراجعني في أمره، وإن لم تفعل أمرت من يضرب عنقك فمضى مسرور، واستأذن على جعفر، ودخل عليه، وقد نزع ثيابه يستريح، فقال له يا سيدي أجب أمير المؤمنين.

 

فانزعج، وقال ويلك يا مسرور أنا خرجت من عنده في هذه الساعة فما الخبر؟ قال له وردت كتب من خراسان تحتاج إلى النظر السريع، فطابت نفسه، ودعا بثيابه فلبسها، وتقلد سيفه، وذهب معه وفي قلبه بعض الشك، فلما دخل من الباب الأول أوقف مسرور الجند، وفي الباب الثاني أوقف الغلمان، فلما مر من الباب الثالث التفت فلم يري أحدا من غلمانه فندم على ركوبه، وزاد الخوف في نفسه، وأدخل القبة فقال لمسرور ما الخبر؟ قال له قد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك، وحمل رأسك إليه الساعة فبكى جعفر، وجعل يُقبل يدي مسرور، ويقول قد علمت كرامتي لك دون جميع الغلمان، وأنت تعرف موضعي ومحلي من أمير المؤمنين فلعل أمير المؤمنين أن يكون قد بلغه عني باطل فدعني أهيم على وجهي فقال لا سبيل إلى ذلك، قال فاحملني إليه، وأوقفني بين يديه فلعله إذا وقع نظره عليّ أن تدركه الرحمة فيصفح عني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى