مقال

الدكروري يكتب عن الإمام إبن عساكر” جزء 5″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام إبن عساكر” جزء 5″
بقلم / محمـــد الدكـــروري

ونكمل الجزء الخامس مع الإمام الحافظ إبن عساكر، وقال أبو المواهب وأنا أقول لم أري مثله ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة من لزوم الجماعة في الخمس في الصف الأول إلا من عذر، والاعتكاف في رمضان وعشر ذي الحجة وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة وأباها بعد أن عرضت عليه، وقلة التفاته إلى الأمراء، وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، وقال لي لما عزمت على التحديث والله المطلع أنه ما حملني على ذلك حب الرئاسة والتقدم، بل قلت متى أروي كل ما قد سمعته وأي فائدة في كوني أخلفه بعدي صحائف ؟ فاستخرت الله، واستأذنت أعيان شيوخي ورؤساء البلد، وطفت عليهم.

فكل قال ومن أحق بهذا منك ؟ فشرعت في ذلك سنة ثلاث وثلاثين فقال لي والدي أبو القاسم الحافظ، قال لي جدي القاضي أبو المفضل لما قدمت من سفري اجلس إلى سارية من هذه السواري حتى نجلس إليك، فلما عزمت على الجلوس اتفق أنه مرض، ولم يقدر له بعد ذلك الخروج إلى المسجد، إلى أن قال أبو محمد القاسم وكان أبي رحمه الله قد سمع أشياء لم يحصل منها نسخا اعتمادا على نسخ رفيقه الحافظ أبي علي بن الوزير، وكان ما حصله ابن الوزير لا يحصله أبي، وما حصله أبي لا يحصله ابن الوزير، فسمعت أبي ليلة يتحدث مع صاحب له في الجامع، فقال رحلت وما كأني رحلت، كنت أحسب أن ابن الوزير يقدم بالكتب مثل الصحيحين، وكتب البيهقي والأجزاء، فاتفق سكناه بمرو، وكنت أؤمل وصول رفيق آخر له يقال له يوسف بن فاروا الجياني.

ووصول رفيقنا أبي الحسن المرادي، وما أرى أحدا منهم جاء، فلا بد من الرحلة ثالثة وتحصيل الكتب والمهمات، قال فلم يمضي إلا أيام يسيرة حتى قدم أبو الحسن المرادي فأنزله أبي في منزلنا، وقدم بأربعة أسفاط كتب مسموعة ففرح أبي بذلك شديدا، وكفاه الله مؤنة السفر، وأقبل على تلك الكتب فنسخ واستنسخ وقابل وبقي من مسموعاته أجزاء نحو الثلاثمائة فأعانه عليها أبو سعد السمعاني فنقل إليه منها جملة حتى لم يبق عليه أكثر من عشرين جزءا، وكان كلما حصل له جزء منها كأنه قد حصل على ملك الدنيا، وقال ابن النجار قرأت بخط معمر بن الفاخر في معجمه، أخبرني أبو القاسم الحافظ إملاء بمنى، وكان من أحفظ من رأيت وكان شيخنا إسماعيل بن محمد الإمام يفضله على جميع من لقيناهم، قدم أصبهان ونزل في داري، وما رأيت شابا أحفظ ولا أورع ولا أتقن منه.

وكان فقيها أديبا سنيا، سألته عن تأخره عن الرحلة إلى أصبهان، قال استأذنت أمي في الرحلة إليها، فما أذنت، وكان لابن عساكر شعر حسن يمليه عقيب كثير من مجالسه وكان فيه انجماع عن الناس، وخير وترك للشهادات على الحكام وهذه الرعونات، وظل الإمام إبن عساكر محل تقدير الناس والولاة، فكان يحضر مجالسه نور الدين محمود سلطان دمشق الذي قربه وبنى له دار السنة وكان صلاح الدين الأيوبي يُجله ويحضر مجالس تدريسه ومكث الإمام ابن عساكر يؤدي رسالته حتى لبّى نداء ربه، حيث توفي الإمام الحافظ ابن عساكر ليلة الاثنين الحادي عشر من شهر رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة من الهجرة، وصلى عليه القطب النيسابوري وحضره السلطان صلاح الدين، ودفن عند أبيه بمقبرة باب الصغير، شرقي الحجرة التي فيها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.

وقال العماد في معجم الأدباء “وكان الغيث قد احتبس في هذه السنة، فدر وسح عند ارتفاع نعشه، فكأن السماء بكت عليه بدمع وبله وطشه” رحم الله ابن عساكر وجزاه المولى عنا خير جزاء، فقد عكس بسيرته الحسنة منذ نشأته وتدرجه في معارج العلم والدين أسرارا روحانية إيمانية عظيمة، تدلنا على أهمية الأسرة التي جعلت شعارها العلم الصحيح والدين المتين، بتقى وورع شديد ينتج لبنة صالحة تساهم في بناء المجتمع الصالح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى