مقال

نظرة تأمل مع رمضان شهر العزة والنصر ” الجزء السادس

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء السادس مع رمضان شهر العزة والنصر، وقد توقفنا عند فتح مكة وكان فتح مكة فى الثالث والعشرين من رمضان من السنة الثامنة للهجرة وقد شكل الآية العظمى على مدى الأخلاقية النبوية الإنسانية التى التزم بها الرسول صلى الله عليه وسلم مقدما أرفع نموذج للتسامح والتواضع والسمو الذى عرفته البشرية عبر تاريخها، وعندما هاجر لوحق ورصدت الأموال الطائلة لمن يغتاله، بعد أن فشلت مؤامرة قتله صلى الله عليه وسلم في داخل مكة، ثم أخيا الأعوام الثمانية التى قضاها الرسول صلى الله عليه وسلم فى مكة، وهم يلاحقونه ويتربصون بكل أصحابه، ولا تمر الأيام أو الأسابيع إلا وهم متآمرون عليه مع اليهود أو المنافقين، أو مُوعزون لبعض القبائل بترويعه في المدينة والسطو على مسارح المسلمين التى تسرح فيها دوابهم، أو مقاتلون له مباشرة طورا ثالثا، وها هى السنوات الطوال قد مضت، وها هو أنبل الناس وأزكى الناس، الذي حورب واضطهد يعود فاتحا لبلده، أَجل، بلده مكة التي أخرج منها وهو يذرف الدمع.

 

ويقول “والله إنك لأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت” بينما صلى الله عليه وسلم يخفق قلبه بأروع المشاعر لأنه في طريقه إلى المسجد الحرام والكعبة، وقد فعل ما أراد، واستلم الحجر الأسود، طاف بالبيت، ولم يكن محرما، وهو يتلو قول الله تعالى ” وقل جاء لحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا” ثم دخل إلى جوف الكعبة، فأزال آثار الوثنية من داخلها، كما أزالها من خارجها، ثم دار في البيت يُوحد الله ويكبّره، وكل ذلك وهم ينظرون إليه، إنهم في واد بعيد عنه، إنه في الآخرة، فى الملأ الأعلى، أما هم فيفكرون هلعين فيما ينتظرهم، متذكرين ماضيهم الأسود معه، ونظر صلى الله عليه وسلم إلى آلاف الوجوه التى فعلت به الأفاعيل طيلة عقدين من الزمان، بعد أن دخل مكة من أعلاها، من كداء، وهو يضع رأسه وهو راكب على دابته، تكاد تلامس رأسه ظهر الدابة تخشعا وخضوعا لله، وهم ينتظرون القضاء العادل، لكنهم مع ذلك كانوا يعرفون أن محمدا هو محمد رسول الرحمة.

 

لأنه الرسول الأخلاقى الذى وصفه ربه بالخلق العظيم فقال ” وإنك لعلى خلق عظيم” فإنه لن يعاملهم بالعدل، فلو عاملهم بالعدل لانتهى كل شيء، ثم فاجأهم النبى الكريم صلى الله عليه وسلم بالسؤال ” يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم؟” وكأنما كان السؤال نفسه طوق نجاة لهم، فسرعان ما أجابوه قائلين خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال صلى الله عليه وسلم ” فإنى أقول لكم كما قال يوسف لأخوته ” لا تثريب عليكم اليوم” اذهبوا، فأنتم الطلقاء، ثم تتوالى آيات عظمته وكرمه، وعندما كانت الجيوش الإسلامية تزحف على مكة فى ظل أوامر صارمة بعدم إراقة الدماء إلا فى الدفاع عن النفس أخطأ أحد القادة وهو الصحابى الجليل سعد بن عبادة فقال اليوم يوم الملحمة، اليوم يذل الله قريشا، فانتزعت منه الراية بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأعطيت لابنه قيس، وصحح الرسول صلى الله عليه وسلم العبارة حتى لا تذهب إلى الناس وتروعهم قائلا “اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله قريشا” وقد صدق فلولاه ولولا دخول مكة فى الإسلام.

 

لما كانت لمكة قيمة، ولما كان لقريش قيمة أبدا، وإن شهر رمضان بأيامه المباركة، ولياليه المشرقة، كان وما زال فرصةً للمؤمن الصادق ليظهر اعتزازه بدينه، وليعلن اعتداده بعقيدته، ولينادى مفتخرا باتباعه شريعة ربه، وتمسكه بسنة نبيه، وليعلق قلبه وقالبه بمولاه عز وجل وحده دون سواه، ولينصره تبارك وتعالى في أوامره ونواهيه لينصره ربه كما وعده، حيث قال تعالى فى سورة محمد ” إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم” وإن المعارك والغزوات التي كللت بالانتصار في هذا الشهر المبارك كثيرة، وقيل يكفى من القلادة ما أحاط بالعنق، أى أنه يكفى فخرا للمسلمين أن يستحضروا هذه المشاهد الخالدة فى التاريخ الإسلامى ليأخذوا منها الدروس والعبر، وإن المجاهدين المخلصين فى كل زمان ومكان قادرون بتوفيق من الله على صنع النصر من رماد الهزيمة، وبناء المصر والحضارة الراقية في خرائب العدوان، وزرع حدائق العلم والنور في ظلمات الجهل، إذا وجدوا من يُحسن قيادتهم، ويضرب لهم المثل والقدوة.

 

ويتميز بالتضحية والشجاعة والإخلاص لله تعالى ويغلب همّ إعلاء كلمة هذا الدين على مصالحه الشخصية البالية الفانية، لكن إذا هانوا واستكانوا كانوا قصعة مستباحة لكل الأدعياء قبل الأعداء، وكان من إنتصارات شهر رمضان هى معركة حطين واسترداد بيت المقدس، وكانت بين المسلمين بقيادة صلاح الدين، وبين الصليبين، وقد وُلد صلاح الدين الأيوبى فى قلعة تكريت عام خمسمائة واثنين وثلاثين من الهجرة، واسمه يوسف بن أيوب بن شاذى، وهو كردى لا عربى، ولقبه صلاح الدين، وقد انتقلت أسرته إلى الموصل، ثم رافق والده الذى عُين حاكما على بعلبك ودرس صلاح الدين فيها أنواعا من العلوم، وتعلم الصيد والفروسية، ثم لحِق بعمه أسد الدين شيركوه فى حلب، وأبدى صلاح الدين فى دمشق مهارة وقدرة كبيرة، ثم رجع إلى حلب واهتم به نور الدين لملامح الفطنة التى رآها عليه، ثم إن عمه أسد الدين شيركوه قد اصطحبه معه إلى مصر بأوامر من نور الدين وكان نور الدين يسعى إلى تحقيق الوحدة الإسلامية.

 

بين الشام ومصر لجعل الصليبيين بين شقي الرحا، وكان من أهداف نور الدين أن يُوحد بلاد المسلمين لحرب النصارى، وهو يعلم علما تاما أنه لا يمكن أن يحارب المسلمون النصارى وهم متفرقون، وفى هذا درس عظيم لكل من يرى أن نبدأ بالأعداء الخارجيين قبل الأعداء الداخليين، وقد قام المجاهد عماد الدين زنكى، بعد قتال عنيف مع الحاميات الصليبية باستعادة بعض المدن والإمارات من أبرزها إمارة الرها، وواصل خلفه نور الدين محمود، التصدى للفرنجة، فمد نفوذه إلى دمشق واستكمل القائد المجاهد صلاح الدين الأيوبى تلك الانتصارات فكانت معركة حطين الشهيرة التي استرد بعدها بيت المقدس عام خمسمائة وثلاثة وثمانون من الهجرة، وكان صلاح الدين الأيوبى يعلم علم اليقين أن النصارى الصليبيين ليسوا من السهولة أبدا، ولذلك سارع إلى إدخال إصلاحات جذرية في الجهاد، وكان يطبق قول الله تعالى ” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم” ولذلك هيّأه الله سبحانه وتعالى.

 

لترتيب صفوف المسلمين، وفى تخطيطه لإعداد الأمة للجهاد، لم يكن الرجل يُعد نفسه وأهل بيته فقط، ولا المدن التي كانت حوله فقط، كان يُعد الأمة الإسلامية قاطبة لحرب الصليبيين، وابتدأت المسألة من جوانب الاقتصاد، وإعداد السلاح، والجند والجيوش، والدواوين والأسلحة، والمؤن والذخائر والعتاد، والخطط الحربية، فكانت معركة حطين تمهيدا لدخول صلاح الدين إلى بيت المقدس، وتم بفضل الله نصر الله المبين حيث التقت جيوش المسلمين بجيوش الصليبيين في حطين، فلقد جمع الصليبيون عشرين ألف مقاتل، جمعوهم من كل دويلات الصليبيين واشتبك الجيشان، وانجلت المعركة عن نصر ساحق لصلاح الدين مع تدمير تام لجيش أعدائه، ولم يكن أمام جيش صلاح الدين بعد معركة حطين إلا أن يتقدم نحو القدس، وقبل أن يتقدم نحوها استسلم له حصن طبرية، وفتح عكا، واستولى على الناصرية، وقيسارية، وحيفا، وصيدا، وبيروت، وبعدها اتجه صلاح الدين إلى القدس، ولكن الصليبيين تحصنوا بداخلها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى