مقال

الدكروري يكتب عن الإمام إبن تغري ” جزء 3″

جريدة الاضواء

الدكروري يكتب عن الإمام إبن تغري ” جزء 3″
بقلم / محمـــد الدكـــروري

ونكمل الجزء الثالث مع الإمام إبن تغري، وكتب عن شعراء عصره واجتهد وحصل ونثر ونظم وبرع فى عدة علوم وشارك فى عدة فنون، كما أنه سمع شيئا كثيرا من كتب الحديث، وأجازه جماعات لا تحصى مثل حافظ العصر شيخ الإاسلام قاضي القضاة شهاب الدين أحمد ابن حجر، والشيخ الحافظ تقي الدين أحمد بن على بن عبد القادر المقريزى الشافعى، والحافظ العلامة أبو محمد بدر الدين العينى الحنفى، وأبو ذر عبد الرحمن بن محمد الزركشى الحنبلى، وعز الدين عبد الرحيم ابن الفرات الحنفى، وجلال الدين عبد الرحمن بن على بن عمر بن الملقّن، وآخرون، ومن مسموعاته العوالي كتاب السنن لأبى داود، وجامع الترمذي وشمائل المصطفى للترمذي كذلك، ومسند ابن عباس، وقطعة كبيرة من مسند أحمد فى عدّة مجالس، ومن مسموعاته العوالى.

أيضا كتاب “فضل الخيل” للحافظ شرف الدين الدمياطى سمعه على الحافظ تقي الدين المقريزى، وكما شغف ابن تغري بردي بالتاريخ وأحداثه منذ حداثته، وخاصة كتب المؤرخ بدر الدين العيني، التي كانت تقرأ في البلاط السلطاني، ومن أشهرها عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، والسيف المهند في سبرة الملك المؤيد، والروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر ططر، واجتهد فى ذلك إلى الغاية، وساعده جودة ذهنه، وحسن تصوره، وصحيح فهمه، حتى برع ومهر وكتب وحصّل وصنف وألف وانتهت اليه رياسة هذا الشأن فى عصره، ويعد ابن تغري بردي من أظهر تلاميذ أستاذه تقي الدين المقريزي، وهو أعظم مؤرخي العصر ورائد المدرسة التاريخية المصرية، كما أنه عاصر كبار المؤرخين المصريين الذين ظهروا في عصره أمثال ابن حجر العسقلاني.

والسيوطي، وشمس الدين السخاوي، الذي ترجمه في كتابه الضوء اللامع ونقد ما دونه من تراجم وأحداث مبينا أنه يرجّح نفسه على من تقدمه من المؤرخين من ثلاثمائة سنة لاعتقاده أنه أعلمهم بمعرفة الترك وأحوالهم ولغاتهم، وفي ترجمته قال السخاوي وقد اجتمعت به مرارا، وكان يبالغ فى إجلالى اذا قدمت عليه ويخصنى بتكرمة للجلوس، والتمس منى اختصار الخطط للمقريزى، وكانت لحياة ابن تغري بردي المترفة والهادئة، ونشأته في بيت العز والإمارة، واتصاله بالمصاهرة والصداقة مع أسرة السلطان المملوكي وأكابر رجالات الدولة، أثر كبير في تفرغه للبحث والدرس والمطالعة، مما جعله قادرا على الاستغناء عن العمل للكسب، فتعلم الفروسية وفنونها، وعلم الفلك والطب، وأتقن اللغتين الفارسية والتركية وبرع فيهما، وكانت التركية لغة البلاط والسياسة في ذلك العصر.

وهو ما ساعده على النفاذ إلى دقائق الدولة والسياسة، مما أثر في أبحاثه وكتاباته التاريخية، ثم دخل بلاط السلطان المملوكي وصار بارعا في فنون الفروسية، كلعب الرمح، ورمي النشاب ولعب الكرة والصولجان ونحو ذلك، وأخذ هذه الفنون عن عظماء هذا الشأن، وفاق فيهم على أنداده، وساد على أقرانه علما وعملا، وكما تعلم علوم الموسيقى والشعر وكانت له اليد الطولى فى علم النغم والضروب والإيقاع، حتى لعله لم يكن فيه مثله فى زمانه، انتهت إليه الرياسة فى ذلك، وأما عن مناقبه وأخلاقه فقد ذكرها تلميذه وصديقه أحمد بن حسين التركمانى المعروف بالمرجي بآخر كتاب المنهل الصافى لابن تغري بردي، وقد كتبه بخطه وعليها اعتمد كل من ترجم لإبن تغري، فقال يصفه بالديانة والصيانة والعفّة عن المنكرات والفروج، والاعتكاف عن الناس.

وترك الترداد الى أعيان الدولة حتى ولا إلى السلطان مع حسن المحاضرة، ولطيف المنادمة، والحشمة الزائدة، والحياء الكثير، واتساع الباع فى علوم الآداب والتاريخ وأيام الناس، قلّ أن يخلو مجلسه من مذكرات العلوم، وجالسته كثيرا وتأدبت بتربيته، وحسن رأيه وسياسته وتدبيره، وكان يضرب به المثل فى الحياء والسكون، ما سمعته شتم أحدا من غلمانه، ولا من حاشيته، ولا تكبّر على أحد من جلسائه قط، كبيرا كان أو صغيرا، جليلا كان أو حقيرا، وصحب بعض الأصلاء الأعيان كالقاضى كمال الدين بن البارزى، وقاضى القضاة شهاب الدين ابن حجر وغيرهما من العلماء والرؤساء، وتكرر ترداد غالبهم إلى بابه، وحضروا مجلسه كثيرا وأحبّوه محبة زائدة، هذا مع ما اشتمل عليه من الكرم الزائد، والميل إلى الخير، ومحبته أهل العلم والفضل والصلاح.

والإحسان إليهم بما تصل القدرة إليه، وحج عدة مرات، وكما اشترك في حملة السلطان الأشرف برسباي العسكرية على الآق قوينلو في شمالي الجزيرة السورية، وكانت علاقاته وثيقة مع برسباي الذي منحه إقطاعا، وكذلك ومن تلاه من السلاطين، ويذكر أنه كان إذا سافر يستخلف فى كتابة الحوادث ونحوها التقي القلقشندى، وقد أشار ابن إياس فى تاريخه بدائع الزهور فى وقائع الدهور إلى ترجمة ابن تغري بردي عند ذكر وفاته فى حوادث سنة ثماني مائة واربع وسبعون من الهجرة، فقال وفيه كانت وفاة الجمالي يوسف بن الأتابكى تغرى بردى اليشبغاوى الرومى نائب الشام، وكان الجمالي يوسف رئيسا حشما فاضلا حنفى المذهب وله اشتغال بالعلم، وكان مشغوفا بكتابة التاريخ وألف فى ذلك عدة تواريخ، منها تاريخه الكبير الموسوم بالنجوم الزاهرة.

والمنهل الصافى ومورد اللطافة فيمن ولى السلطنة والخلافة وله تاريخ فى وقائع الأحوال على حروف الهجاء وله غير ذلك عدّة مصنفات، وكان نادرة فى أولاد الناس، وكتب أبو المحاسن ابن تغري بردي العديد من المصنفات في الرياضة والموسيقى والأمثال والأسماء والصناعات، والموسوعات التاريخية، بلغت اثنى عشر مؤلفا، وكان ابن تغري بردي قد ابتنى له قبل موته تربة هائلة بالقرب من تربة السلطان الأشرف إينال، ووقف كتبه وتصانيفه بها، وتعلل قبل موته بنحو سنة بالقولنج، واشتد به الأمر من أواخر رمضان بإسهال دموى بحيث انتحل وتزايد كربه، وتمنى الموت لما قاساه من شدة الألم إلى أن قضى فى يوم الثلاثاء خامس ذى الحجة سنة ثماني مائة واربعة وسبعون من الهجرة، ودفن من الغد بتربته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى