مقال

الدكروري يكتب عن جمال الدين الأفغاني ” جزء 2″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن جمال الدين الأفغاني ” جزء 2″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ونكمل الجزء الثاني مع جمال الدين الأفغاني، وكان بحسن تدبيره يستتب الأمر للأمير، ولكن الحرب الداخلية، مالبثت أن تجددت، إذ كان شير علي لا يفتأ يسعى لاسترجاع سلطته، وكان الإنجليز يعضدونه بأموالهم ودسائسهم، فأيدوه ونصروه، ليجعلوه من أوليائهم وصنائعهم، وأغدق شير علي الأموال على الرؤساء الذين كانوا يناصرون الأمير محمد أعظم، فبيعت أمانات ونقضت عهود وجددت خيانات، وانتهت الحرب بهزيمة محمد أعظم، وغلبه شير علي، وخلص له الملك، وظل جمال الدين في كابل لم يمسسه الأمير بسوء، احتراما لعشيرته وخوف انتفاض العامة عليه حمية لآل البيت النبوي، وهنا تبدو مكانة جمال الدين الأفغاني، ومنزلته بين قومه، وهو بعد في المرحلة الأولى من حياته العامة، ويتجلى استعداده للإضطلاع بعظائم المهام، والتطلع إلى جلائل الأعمال، فهو يناصر أميرا يتوسم فيه الخير.

 

ويعمل على تثبيته في الإمارة، ويشيد دولة يكون له فيها مقام الوزير الأول، ثم لاتلبث أعاصير السياسة والدسائس الإنجليزية أن تعصف بالعرش الذي أقامه، ويغلب على أمر الأمير، ويلوذ بالفرار إلى إيران لكي لايقع في قبضة عدوه، ثم يموت بها، أما الأفغاني فيبقى في عاصمة الإمارة، ولايهاب بطش الأمير المنتصر، ولايتملقه أو يسعى إلى نيل رضاه، ولاينقلب على عقبيه كما يفعل الكثيرون من طلاب المنافع، بل بقي عظيما في محنته، ثابتا في هزيمته، وتلك ظواهر عظمة النفس، ورباطة الجأش، وقوة الجنان، وهذه المرحلة كان لها أثرها في الاتجاه السياسي لجمال الدين، فقد رأى مابذلته السياسة الإنجليزية لتفريق الكلمة، ودس الدسائس في بلاد الأفغان، وإشعال نار الفتن الداخلية بها، واصطناعها الأولياء من بين أمرائها، ولا مراء في أن هذه الأحداث قد كشفت له عن مطامع الإنجليز.

 

وأساليبهم في الدس والتفريق، وغرست في فؤاده روح العداء للسياسة البريطانية خاصة، والمطامع الاستعمارية الأوروبية عامة، وقد لازمه هذا الكره طوال حياته، وكان له مبدأ راسخا يصدر عنه في أعماله وآرائه وحركاته السياسية، ولم ينفك الأمير شير علي يدبر المكايد للسيد جمال الدين، ويحتال للغدر به فرأى السيد أن يفارق بلاد الأفغان، ليجد جوا صالحا للعمل، فاستأذنه في الحج، فأذن له، فسار إلى الهند سنة ألف ومائتان وخمس وثمانين من الهجرة، وكانت شهرته قد سبقته إلى تلك الديار، لما عرف عنه من العلم والحكمة، وماناله من المنزلة العالية بين قومه، ولم يكن يخفى على الحكومة الإنجليزية عداءه لسياستها، ومايحدثه مجيئة إلى الهند من إثارة روح الهياج في النفوس، خاصة لأن الهند كانت لا تزال تضطرم بالفتن على الرغم من إخماد ثورة سنة ألف وثماني مائة وسبع وخمسين ميلادي.

 

فلما وصل إلى التخوم الهندية تلقته الحكومة بالحفاوة والإكرام، ولكنها لم تسمح له بطول الإقامة في بلادها، وجاء أهل العلم والفضل يهرعون إليه، يقتبسون من نور علمه وحكمته، ويستمعون إلى أحاديثه ومافيها من غذاء العقل والروح، والحث على الأنفة وعزة النفس، فنقمت الحكومة منه اتصاله بهم، ولم تأذن له بالاجتماع بالعلماء وغيرهم من مريديه وقصاده، إلا على عين من رجالها، فلم يقم هناك طويلا، ثم أنزلته الحكومة إحدى سفنها فأقلته إلى مدينة السويس، وجاء إلي مصر لأول مرة أوائل سنة ألف وثماني مائة وسبعين ميلادي، أواخر سنة ألف ومائتان وست وثمانين من الهجرة، ولم يكن يقصد الإقامة بها طويلا لأنه إنما جاء ووجهته الحجاز أي جاء إلى مصر ليسافر منها إلى بلاد الحجاز، فلما سمع الناس بقدومه، اتجهت إليه أنظار النابهين من أهل العلم، وحينما وصل إلى مصر زار الأزهر الشريف.

 

واتصل به كثير من الطلبة، فآنسوا فيه روحا تفيض معرفة وحكمة، فأقبلوا عليه يتلقون بعض العلوم الرياضية، والفلسفية، والكلامية، وقرأ لهم شرح الأظهار في البيت الذي نزل به بخان الخليلي، وأقام بمصر أربعين يوما، ثم تحول عزمه عن الحجاز، وسافر إلى الأستانة، وقد وصل جمال الدين إلى الأستانة، فلقي من حكومة السلطان عبد العزيز حفاوة وإكراما، إذ عرف له الصدر الأعظم عالى باشا مكانته، وكان هذا الصدر من ساسة الترك الأفذاذ، العارفين بأقدار الرجال، فأقبل على الأفغاني يحفه بالاحترام والرعاية، ونزل من الأمراء والوزراء والعلماء منزلة عالية، وتناقلوا الثناء عليه، ورغبت الحكومة أن تستفيد من علمه وفضله، فلم تمضي ستة أشهر حتى جعلته عضوا في مجلس المعارف، فاضطلع بواجبه، وأشار بإصلاح مناهج التعليم، ولكن آراءه لم تلقي تأييدا من زملائه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى