مقال

الدكروري يكتب عن سلطان العاشقين ابن الفارض ” جزء 3″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن سلطان العاشقين ابن الفارض ” جزء 3″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ولقد سعى ابن الفارض إلى تفريغ قلبه عن الوجود الذاتي، وقصر خطراته النفسية على شغله بمحبوبه عساه يظفر بذلك بخلوة روحية، فكل شيء في وجوده يمثل لروحه صورة الحبيب الذي يراه في ملامة العذال وفي لمع البرق وفي كل شي، ويظهر من خلال العديد من قصائده استحضاره لصورة المحبوب والصبابة القوية في شعره في كثير من الأحيان، ولم يُعرف لابن الفارض أي آثار أدبية أو صوفية سوى ديوانه الوحيد صغير الحجم الذي لم يتجاوز عدد أبياته على ألف وثماني مائة وخمسين بيتا، ويعد هذا الديوان تحفة أدبية كبيرة وتراثا روحيا خصبا وخالدا على الرغم من صغر حجمه كما ويعد أفضل الدواوين العربية من ناحية موضوعه وأسلوبه الذي يدور الشاعر فيه حول موضوع واحد وهو الشعر الصوفي في الحب والخمر، ليكون شعره بذلك مرآة صادقة انعكست على صفحتها أسلوبه وأذواقه التي خضعت لها نفسه وروحه في سبيل حبّه الإلهي.

 

فمن الطبيعي أن يكون كذلك كونه عاش في زمن امتاز بكثرة التصنع والتكلف، كما بلغت في عصره هذا الأناقة البديعية بأعلى درجاتها سواء في النثر أو النظم، فعصره أيضا هو عصر القاضي الفاضل وابن سناء الملك والعماد الأصبهاني، الذين عُرفوا جميعهم بولعهم الشديد بصناعة اللفظ والتكلف لأنواع من البديع، وقد امتاز شعره بالألفاظ الرقيقة مع الجزالة والمتانة والمعنى الدقيق وعمق الأفكار والوضوح والسلاسة وصدق الإحساس وسلامة الأسلوب والبعد عن الخيال، وأما من ناحية التصوف الذي يعني الزهد في الدنيا، والانقطاع لعبادة الله، فقد كان ديوانه ذي نزعة صوفية واضحة فيه، وسيطرت عليه سيطرة قوية دقة إحساسه وسمو عاطفته، فلما كرّس حياته مقبلا على محبوبه مشتاقا إليه مفنيا نفسه فيه ظفر بهذا كله بما قرّت به عينه وبما اطمأن له قلبه من الاتصال بالذات الإلهية العليا وكشف حقيقة الوجود المطلقة، ومن هذا المنطلق.

 

كان ديوان ابن الفارض يمثل أنشودة جميلة من أناشيد الحب، ولقد حظي شعر ابن الفارض بقبول واهتمام كبيرين في العصور كافة، حيث تأثر بأسلوبه في الشعر شعراء كثر، فضمنوا قصائدهم بالكثير من أبياته، كما تناول شعره عدد لا بأس به من الأدباء والعلماء في شرحه وتحليله وفي مقدمتهم محيي الدين بن عربي، فكثرت شروح ديوانه بعدة لغات كاللغة العربية والفارسية والتركية والهندية، بالإضافة إلى ازدياد اهتمام العلماء والأدباء في العصر الحديث بديوانه، فتناولوا دراسته مرات عديدة وترجموه إلى اللغات الأجنبية المعاصرة، كما قاموا بطباعته طبعات كثيرة ومن هذه الطبعات ما كان مفردا ومنها ما احتوى على بعض الشروح، ولقد شهد ابن الفارض لنفسه بطغيان السلطنة الوجدانية في العديد من المواضع من شعره، فاتخذ نفسه إماما للعاشقين، واتخذ محبوبه إمام الملاح، وعاش حياته متغنيا بالحب الإلهي حتى لقب بسلطان العاشقين.

 

وكانت من أبرز القصائد التي ألفها ابن الفارض، زدني بفرط الحب فيك تحيرا، ما بين معترك الأحداق والمهج، أدر ذكر من أهوى ولو بملام، قلبي يحدثني بأنك متلفي، أرج النسيم سرى من الزوراء، شربنا على ذكر الحبيب مدامة، هل نار ليلى بدت ليلا بذي سلم، ما أطيب ما بتنا معا في برد، أنتم فروضي ونفلي، أوميض برق بالأبيرق لاحا، روحي للقاك يا مناها اشتاقت، هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل، يا راحلا وجميل الصبر يتبعه، يا سيدا لم يزل في كل العلوم يجول، ما اسم طير إذا نطقت بحرف، ما اسم شيء من الحيا، سيدي ما قبيلة في زمان، ما اسم لما ترتضيه، خبروني عن اسم شيء شهي، ما اسم قوت يعزى لأول حرف، ولئن وضع ابن الفارض في فئة شعراء التصوف، إلا أنه الرجل الذي تجاوز في شعره الحدود المعينة، فهو بحسب قول جبران خليل بأنه كاهن في هيكل الفكر المطلق، أمير في دولة الخيال الواسع.

 

قائد في جيش المتصوفة العظيم” وأن مجمل صورة عصر ابن الفارض كانت تقوم على الزهد والتقشف من الطبقة العامة في المجتمع، حيث كان ذلك عصر انتقال من الدولة الفاطمية إلى الأيوبية، وكان الناس يعانون من استبداد الحكام وظلمهم ومن ثم كانت الحروب الصليبية والعديد من المشاكل والبلايا كانتشار مرض الطاعون وانحسار النيل لسنوات، وقيل إن سبب سفره للحجاز والعزلة هناك، جاء بإشارة من أحد معلميه وهو الشيخ أبو الحسن البقّال، الذي قال له إن الله سوف يفتح عليه إن ذهب إلى هناك، في مكة، ويرى الباحثون أن أشعار ابن الفارض التي نظمها في الحجاز تنعكس فيها صور الحياة البدوية وتتردد في أبياته الصور الحجازية، فهو يتعرض للبرقع البدوي وأسماء الأماكن، وبرغم صيت ابن الفارض والاستلهام الذي شكله لدى أجيال من الشعراء المتصوفة، إلا أنه لم يعرف عنه سوى ديوان شعر واحد غير أنه يعد تحفة أدبية ناصعة البيان.

 

غنية بالخيال وحيث يدور حول الحب الإلهي، وتوفي ابن الفارض سنة ستمائة واثنين وثلاثين من الهجرة، الموافق عام ألف ومائتان وخمس وثلاثين من الميلاد، في مصر ودفن بجوار جبل المقطم في مسجده المشهور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى