مقال

فى طريق النور ومع اليتيم ” الجزء السادس “

فى طريق النور ومع اليتيم ” الجزء السادس “

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء السادس مع اليتيم، وإنه يبتلى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين في الحياة الدنيا بأنواع كثيرة من البلاء حتى يعلم سبحانه مدى صبرهم وقوة إيمانهم به، ويختلف صعوبة الامتحان بدرجة ونوعية البلاء في حياتنا، فقد يكون في أشياء غير ضرورية في حياتنا لا يكون لها تأثير كبير في حياتنا ككل وهذا امتحان سهل، لكن منها ما لها تأثير كبير في حياتنا وتجعل منها حياة صعبة جدا، فكل دقيقة تمر وكل يوم يمر يكاد الإنسان يشعر بالانهيار من صعوبة العيش مع هذا الابتلاء، وإن من أعظم ابتلاءات الحياة الدنيا فقد الأولاد لأبويهم أحدهما أو كلاهما في الصغر، فيعيشون في يتم وحزن ومشقة وعناء، غير أن رحمة الذي أنزل هذا البلاء جعل في ذلك حكما يعلمها سبحانه وتعالى، تجلت في اهتمام الإسلام باليتيم ورعايته له، وحثه المجتمع المسلم على القيام بواجبه نحوه، رعاية وقربا وإحسانا، ورتب على ذلك أجورا عظيمة وفضائل حميدة، وهذه الرعاية التي أولاها الشرع الحنيف لم تأت بها شريعة من الشرائع ولا دين من الأديان، ومما يؤكد على ذلك، أن الله -تعالى- قرن الإحسان إليه بعبادته وتوحيده، ولم تقتصر توجيهات الإسلام فيما يخص اليتيم العناية به ورعايته والقيام عليه فحسب، بل حذر من الإساءة له أو الاعتداء على حقوقه، أو يدفعه بعنف وشدة، ولا يرحمه لقساوة قلبه، ولأنه لا يرجو ثوابا، ولا يخشى عقابا، وحين يحل اليتم بإنسان, فإنما ذلك له رفعة وأجر, إنه وإن اشتدت عليه الحياة, وصعب عليه فراق الأحباب, وود لو متع بوالد ووالده, إلا أن الله أراد به خيرا, فهو أجر مدخر, وثواب جزيل.

فى طريق النور ومع اليتيم ” الجزء السادس “

وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، بل إنه لربما اعتمد الأب حال وجوده على نفسه في عِيالة أبنائه, فوُكل إلى جهده, فإن غاب اعتمد على الحفيظ وكفى به سبحانه، وأنه ليس اليتم نهايةَ الدنيا, ولا آخر المطاف, بل لربما عبر بوابة اليتم دخل اليتيم إلى أبواب العز والشرف, دينا ودنيا, وسائل التاريخ يفتيك عن أيتام فقدوا آباءهم، فكانوا بعد ذلك من غيّر مجرى الحياة لعقود وقرون، وإن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، هو اليتيم الأول في هذه الأمة, فقد أباه, ثم أمه, ثم عمه, وهو في كل هذا جبل شامخ, لا تزيده الشدائد إلا شموخا وثباتا، فأدبه ربه, فأحسن تأديبه، ومن بعده أمم وخلائق من كبار الأعلام، ونبلاء الإسلام، عاشوا في كنف اليتم, فتولتهم أمهاتهم, لم يهنأوا بعطف الأب, ولم يشعروا بسنده, فهل ضرّهم ذلك؟ وهل أوهن عزمهم؟ فكل هؤلاء عاشوا أيتاما, فغيروا مجرى التاريخ في عزمهم, وقدمت أمهاتهم للأمة رجالا نفع الله بهم إلى يومنا هذا, قال العباس بن الوليد “ما رأيت أبي يتعجب من شيء تعجبه من الأوزاعي، فكان يقول سبحانك تفعل ما تشاء، وكان الأوزاعي يتيما فقيرا في حجر أمه تنقله من بلد إلى بلد، وقد جرى حلمك فيه أن بلغته حيث رأيته, يا بني عجزت الملوك أن تؤدب نفسها وأولادها، وأدب الأوزاعى نفسه” وكان من هؤلاء اليتامى، أبو هريرة راوية السنة الأول، وأبو يوسف القاضي شيخ الحنفية، وسفيان الثوري أمير الناس في الحديث، والشافعي, وأحمد بن حنبل, والبخاري, والأوزاعي, وابن الجوزي, وصقر قريش عبد الرحمن الداخل, وابن حجر, والسيوطي, وغيرهم كثير.

فى طريق النور ومع اليتيم ” الجزء السادس “

وفي المعاصرين، السعدي, وابن باز, وابن عثيمين, وابن إبراهيم, وأحمد ياسين, وغيرهم كثير كثير، فيا أيها اليتيم, يا من ذقت مرارة الفقد, واشتكيت لوعة فراق الأب, يا من وددت لو متعت بأبيك، لا تحزن فالله تعالى قد ادخر لك خيرا, وميدان الحياة أمامك, فأر الله عز وجل من نفسك خيرا, واجعل نفعك يطال والدك في قبره, ودعواتك وأعمالك تنير عليه قبره، فإن اليتيم مشروع حسنات, وباب خيرات, فمن ينهل ومن يرابح مع الله تعالى في الأيتام, وكم من أقوام عبر اليتيم دخلوا الجنة من أوسع أبوابها, وأقوام أوبقوا في النار، ونالوا عذابها, ولا عجب فأكل مال اليتيم من السبع الموبقات, وكفالته من أسباب مرافقة سيد البشر صلى الله عليه وسلم في أعالي الجنات، بل إن المرء إذا أراد أن يلين قلبه، فعليه بالقرب من الأيتام, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “إن أردت أن يلين قلبك، فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم” رواه أحمد، فها هو الخير أمامك، كفالة يتيم تنير لك خيرا, إن بالمباشرة, أو عبر كفالة أيتام المسلمين، وما أكثرهم اليوم, في الداخل والخارج, لا سيما من جراء الحروب التي حلت بأصقاع من بلاد المسلمين عديدة, فتيتم أطفال، وترملت نساء, وعبر الجمعيات الموثوقة تصل لمبتغاك, وتكفل وأنت في بلدك, واليتيم بين أهله، ولا أحصي ولا تحصون من تغيرت حاله بكفالة اليتيم, رأيت من رزق الذرية, ورأيت من انفتحت له أبواب الرزق, بعد كفالته ليتيم, وسمعت عمن شفيت من مرضها, ومن بورك له في ماله, ومن فرج الله كربتها, حين كفلوا أيتاما, وإنها أخبار ليست بالأغاليط, ولا بنسج خيال.

فى طريق النور ومع اليتيم ” الجزء السادس “

ومع هذا فحق اليتيم ليس ماديا فحسب, بل إنه أعظم من ذلك, إنه إنفاق, وشعور, وقرب, وحنو, وإرفاد, ونصح, ودعوات, وكلمات موجهة, وابتسامة, ومشاعر صادقة, ومن يطوق ذلك فقد وفق لخير, ومن قدر على البعض فليبذله، وإنه ليس اليتم صورة واحدة, بل إن بعض صور اليتم أشد من يتم فاقد الأب, فاقد الأبوين, من لم يعرف نسبه, وجهلت هويته, يتمه أشد, ومعاناته أبلغ, ولئن كان جرم والديه بخطيئة الزنا أمر ذاق هو منه العنت, فبقي لزيم دور التربية, فإنه هو غير ملوم بذلك, وهو بشر له أحاسيس كولدي وولدك, وما أعظم أجر من احتسب في إدخال سرور على هؤلاء, ومن أحسن إليهم بأي وجه من أوجه الإحسان, ودعواتنا لأقوام نذروا أنفسهم للقيام على هؤلاء وليبشروا بالعوض من رب الأرض والسماء، فإذا غاب الأب خلف تجارته وعقاراته وأصحابه, فمن يقوم مقامه؟ إذا غابت الأم خلف الحفلات والترفيه والصديقات فمن يقوم مقامها؟ كم من أبناء تيتموا وآباؤهم أحياء؟ كم من أبناء فقدوا آباءهم وهم يرونهم صباح مساء, ولكنهم جسوم بلا روح, وأبدان بلا وجدان, فإن الأبوة ليست طعام ولباس, الأبوة تربية, وقوامة, تهذيب وعيالة, وقرب وتوجيه, ووقاية للأولاد من النار, فهل نحن في بيوتنا وفي نفوس أبنائنا أحياء يا أيها الآباء؟ فهل عُني الآباء بإزالة يتم الأبناء بالتربية والأدب والعلم والدين, إنه زرع إن غرسته وسقيته اليوم جنيته غدا, والموفق من أعانه الله تعالى عليه، وفي خبر سورة الكهف حفظ الله تعالى مال اليتيمين لأن أباهما كان صالحا, أمّن مستقبلهم لا بما تخلفه من مال.

فى طريق النور ومع اليتيم ” الجزء السادس “

فالمال قد يزول بلحظة, وإنما بصلاحك وحفظك لأوامر ربك, دخل مقاتل بن سليمان على المنصور يوم بويع بالخلافة، فقال له المنصور عظني يا إمام؟ فقال أعظك بما رأيت أم بما سمعت؟ قال بما رأيت، فقال يا أمير المؤمنين أنجب عمر بن عبد العزيز أحد عشر ولدا وترك ثمانية عشر دينارا فقط، كفن بخمسة دنانير، واشتري له قبر بأربعة دنانير, ووزع الباقي على أولاده, وهشام بن عبد الملك أنجب أحد عشر ولدا، وكان نصيب كل ولد من التركة ألف ألف دينار، والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت في يوم واحد ولدا من أولاد عمر يتصدق بمائة فرس للجهاد في سبيل الله، وأحد أولاد هشام يتسول في الأسواق، فهكذا أمر الإسلام بالتكافل، ورتب على ذلك أجورا عظيمة، من ذلك كفالة الأيتام، فإن إعانة اليتيم وكفالته سعادة ونعمة، واليتيم ضعيف لكنه قوى إذ يقودك إلى الجنة صبي ضعيف، فـافرح بإحسانك إلى اليتامى والحنو عليهم، وقضاء حاجاتهم، واحذر احتقارهم، فبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، ومن فقد رعاية والده بغير يُتم وجب على المجتمع الإحسان إليه وإحاطته بالرعاية والتربية، فكيف بيتيم الأب، والراحمون يرحمهم الرحمن، ولقد وبّخ الله عز وجل من لم يكرم يتيما، فقال تعالى فى سورة الفجر ” كلا بل لا تكرمون اليتيم” وقَرن الله عز وجل دعّه وهو قهره وظلمه، فقد قرن ذلك بالتكذيب بيوم الدين فقال تعالى كما جاء فى سورة الماعون ” أرأيت الذى يكذب بيوم الدين، فذلك الذى يدع اليتيم” ونهى الله تعالى صفوة خلقه محمد صلى الله عليه وسلم، أن يقهر أحدا منهم.

فقال تعالى ” فأما اليتيم فلا تقهر” أي لا تذله ولا تنهره ولا تهنه، ولكن أحسن إليه وتلطف به، ونهى عن قرب مال اليتيم إلا بالحسنى فقال تعالى كما جاء فى سورة الأنعام ” ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن” ولا يتولى أموالهم إلا القوى الأمين ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الضعيف من صحابته أن يتولى على شيء من أموالهم فقال “يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال اليتيم” رواه مسلم، فإن اليتيم يأتي إلى الدار بالخيرات، وتتنزل بحلوله البركات، ويلين به القلب من الزلات، وقد سأل رجل الإمام أحمد رحمه الله، كيف يرق قلبي؟ قال “ادخل المقبرة وامسح رأس اليتيم” وأطيب المال ما أعطي منه اليتيم، فقال صلى الله عليه وسلم،”إن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المال المسلم ما أعطي منه المسكين واليتيم وابن السبيل” رواه البخارى ومسلم، وقد كان النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، قدوة في كفالة الأيتام، فاتخذ صلى الله عليه وسلم، أكثر من عشرة أيتام يحوطهم برعايته وعنايته، فكان لهم أبا رحيما مشفقا محبا لهم، ومن كفل يتيما كان معه في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم”أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين” رواه البخارى ومسلم، وقد اقتفى الصحابة رضي الله عنهم، أثر النبى صلى الله عليه وسلم، فكان تحت الخلفاء الراشدين أيتام في بيوتهم، وكفل نساؤهم أيتاما من البنات في بيوتهن، كأم المؤمنين عائشة وميمونة وزوجة ابن مسعود رضي الله عنهن، وكان ابن عمر رضي الله عنه، إذا رأى يتيما مسح رأسه وأعطاه شيئا

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه ارحم اليتيم، وأدنه منك، وأطعمه من طعامك، وإن الله عز وجل لا يغلق عن عبده بابا إلا ويفتح له برحمته وفضله أبوابا غيره، واليتيم قد يكون طريقا للعلو والشموخ، فقد كان في الأمة من فقدوا آباءهم فأصبحوا فيها عظماء، ولقد حفل التاريخ بأناس عاشوا اليتم، ولكنهم ملؤوا الدنيا علما وجهادا ودعوة وعبادة، فهذا هو راوى الحديث أبو هريرة رضى الله عنه، فقد نشأ أبو هريرة رضي الله عنه يتيما، وكان يرعى لقومه الغنم، ثم لازم النبي صلى الله عليه وسلم، فكان راوية الإسلام، يخبر عن نفسه فيقول رضى الله عنه نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا، وكنت أجيرا لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلى، أحدو بهم إذا ركبوا، وأحتطب إذا نزلوا، فالحمد لله الذي جعل الدين قواما، وجعل أبا هريرة إماما، وهذا هو الإمام البخاري رحمه الله، صاحب الصحيح كان يتيم، وقرأ على ألف شيخ، فصنف أصح كتاب في الحديث، فكان هذا اليتيم نعمة على هذه الأمة، وهذا هو الإمام الشافعى رحمه الله، فقد أباه وهو دون العامين، فنشأ في حجر أمه في قلة من العيش وضيق من الحال، فحفظ القرآن وجالس في صباه العلماء فساد أهل زمانه، وقال الحميدي سمعت الشافعى يقول كنت يتيما في حجر أمي، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضى مني أن أقوم على الصبيان إذا غاب، وأخفف عنه، فأي شيء كان الشافعي بعد ذلك؟ فقد قال الإمام أحمد، كان الشافعى كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى