مقال

نفحات إيمانية ومع المسلمون وحضارة الإنسانية ” جزء 3″

نفحات إيمانية ومع المسلمون وحضارة الإنسانية ” جزء 3″

بقلم / محمـــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء الثالث مع المسلمون وحضارة الإنسانية، وقد انتهت هذه المرحلة في أواسط القرن الثالث جتح0، لا في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث كما يظن كثير من الباحثين، ولم يقف الأمر عند حد الأخذ من المعارف الأجنبية وتمثلها كما هي، بل كان النقد المنهجي لهذه المعارف يتم بأسلوب أخلاقي، دون انتقاص قدر أصحاب هذه المعارف أو تجريحهم، انطلاقًا من المبدأ الأخلاقي الذي حفظته الجماعة المسلمة من دينها وتاريخه وأن الخلف مدين للسلف، وأنه ما من عالم مهما بلغ شأنه معصوم من الخطأ أو الزلل، وقد أرست هذه المبادئ الأسس الأخلاقية للنقد المنهجي، وقد أساء كثير من الباحثين فهم هذه الروح إذ زعموا ضعف الاتجاه النقدي لدى علماء المسلمين ووصموهم بالتبعية للفقهاء.

 

وينبغي في هذا الشأن أن نفرق بين علماء المسلمين في عصر التنوير العلمي من تاريخ الحضارة الإسلامية وبين ما انتهى إليه تلاميذهم في عصور الجمود والحذر من الاجتهاد وتوقفه، ويكفى أن نتلمس الأسس الأخلاقية للنقد عندما يقول البيروني “إنما فعلت ما هو واجب على كل إنسان أن يعمله في صناعته، من تقبل اجتهاد من تقدمه بالمِنة، وتصحيح الخلل إن عُثر عليه بلا حشمة، وتخليد ما يلوح له فيها تذكره لمن تأخر عنه بالزمان وأتى بعده” وخلال قرنين من بعد وفاة نبي الإسلام كانت صناعة الكتب منتشرة في كل أنحاء العالم الإسلامي وكانت الحضارة الإسلامية تدور حول الكتب، فقد كانت توجد المكتبات الملكية والعامة والخاصة في كل مكان حيث كانت تجارة الكتب ومهنة النساخة رائجة.

 

وكان يقتنيها كل طبقات المجتمع الإسلامي الذين كانوا يقبلون عليها إقبالا منقطع النظير، وكان سبب هذا الرواج صناعة الورق بدمشق وسمرقند وبغداد، كانت المكتبات تتيح فرص الاستعارة الخارجية، وكانت منتشرة في كل الولايات والمدن الإسلامية بدمشق والقاهرة وحلب وإيران ووسط آسيا وبلاد الرافدين والأندلس وشمال أفريقيا وشبكات المكتبات قد وصلت في كل مكان بالعالم الإسلامي، وكان الكتاب الذي يصدر في دمشق أو بغداد تحمله القوافل التجارية فوق الجمال ليصل لقرطبة بإسبانيا في غضون شهر، وهذا الرواج قد حقق الوحدة الثقافية وانتشار اللغة العربية، وكانت هي اللغة العلمية والثقافية في شتى الديار الإسلامية، كما كان يعني بالنسخ والورق والتجليد.

 

مما جعل صناعة الكتب صناعة مزدهرة في العالم الإسلامي لإقبال القراء والدارسين عليها واقتنائها، وكانت هذه الكتب تتناول شتي فروع المعرفة والخط وعلوم القرآن وتفاسيره واللغة العربية والشعر والرحلات والسير والتراث والمصاحف وغيرها من آلاف عناوين الكتب، وهذه النهضة الثقافية كانت كافية لازدهار الفكر العربي وتميزه وتطوره، وفي غرب أفريقيا في مملكتي مالي وتمبكتو أثناء ازدهارهما في عصريهما الذهبي، كانت الكتب العربية لها قيمتها وكان من بينها الكتب النادرة التي كانت تنسخ بالعربية، وكانت المملكتان قد أقامتا المكتبات العامة مع المكتبات الخاصة، وفي سياق الاهتمام بالتجربة باعتبارها ضربا من الملاحظة المشروطة، وأسلوبا للحوار العلمي مع الواقع.

 

أو أن الملاحظة تعني الاستماع إلى الواقع، والتجربة استجوابا له حتى ينطق عن قوانينه فلا بد أن يحيط بهذه الخبرة البشرية ضوابط أخلاقية بالإضافة إلى المعايير العلمية، ولنتأمل ما يوصي به جابر بن حيان بالاهتمام بالتجربة وعدم التعويل إلا عليها، مع التدقيق في الملاحظة، والاحتياط وعدم التسرع في الاستنتاج، أو ما نطلق عليه اليوم الحذر من التعميم، وعدم القفز إلى النتائج، وفي هذا يقول جابر بن حيان أيضا “وأول واجب أن تعمل وتجري التجارب لأن من لا يعمل ولا يجري التجارب لا يصل إلى أدنى مراتب الاتفاق، فعليك يا بني بالتجربة لتصل إلى المعرفة” وتلتحم قواعد المنهج مع معايير الأخلاق عندما نتأمل بعض فقرات كتاب المناظر للحسن بن الهيثم عن علم البصريات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى