مقال

في السياسة الأمة تتبع الدولة.

في السياسة الأمة تتبع الدولة.

بقلم / سماح بكر أحمد

 

في الوعي السائد لدينا تتقدم الأمة على الدولة وتعلوها. يعتبر معظمنا أن الأمة كيان عضوي ينام ثم ينبعث وإن اختلفوا على كون التعبير أمة الإسلامية أو أمة عربية، لكن الأمر سيان. هما تعبيران كل واحدهما مكان الأخر. لا يكسب العلمانيون شيئاً بالفصل بين الدين والدولة، أو بين الدين والسياسة، إذا كانت معاني الواحدة تؤخذ منها وتوضع على الأخرى. بذلك يمكنك أن تكون علمانياً بينما التعابير والمضامين التي تسعملها في شؤون الدولة جميعها دينية. للدين مصطلحاته ومعانيه وللدولة مصطلحاتها ومعانيها. فصل الإثنين يتطلّب أن لا نستخدم الواحدة منهما في الأخرى. وأن نحيّد الدين. وان نستخدم مصطلحات الدولة والسياسة.

 

من أمثال ذلك اعتبار الأمة كياناً يغفو ثم يفيق مثل طائر الفينيق، أو أن الأمة كائن علوي يتجلى أحياناً في أحداث واقعية، فيحدث النهوض. والأدهى أن يعتبر البعض أن الأمة كائن يقرر متى ينهض فيشكل الدولة والمواطن. في كل ذلك الأمة هبة من السماء.

 

في السياسة الأمة تتبع الدولة وتحققها الدولة. عندما تموت أو تغفو أو يصيبها الانحطاط فتندثر وربما تبقى لغتها لأسباب دينية، وهذا شأن لا أساس له بالسياسة. دستورها يصنعه الناس. الناس في علاقاتهم يمارسون السياسة. السياسة تراكم التسويات. يراعون بذلك مصالحهم واختلافاتهم. يُرحّب بالمختلف. يُعلى من شأن المتعدد. التشابه قسري ومقيت يفرض بالقوة. لا يُفرض التشابه إلا بالقمع عن طريق الاستبداد. يلتقي الدين والاستبداد على تفضيل التشابه وإن اختلف موضوع التشابه في واحد منهما عن الآخر. ربما أراد الاستبداد تشابه الناس في الاستخفاف بالمبادئ الدينية. وربما أراد أصحاب الدين تشابه الناس في الطقوس. متفقان على شكل التشابه ومختلفان على المضمون. لكن عدوهما مشترك وهو السياسة ومساهمة المجتمع في القرار وخطره على كل منهما.

 

هناك فرق بين اعتبارين أحدهما أن الأمة متحققة دائماً. إما في حالة يقظة أو كمون، والدولة هي التي تغيب وتحضر وهي التي تموت وتحيا. الاعتبار الثاني هو أن الأمة مرهون وجودها بالناس، بإرادة الناس، تموت أو تحيا مع موت أو حياة السياسة، أو بالأحرى وجود الدولة هو الذي يقرر الأمة ووجودها.

ليس الأمر أن نفضّل الدين على الدولة، فيتواجدا بالتوازي، بل أن نهمّش أحدهما فيخضع للآخر. علمانيتنا السائدة لا تقضي بذلك. لا ترى تهميش الدين وحصره بالإيمان، وأولوية السياسة. لا يقصدون بالعلمانية أن الدستور والقوانين ليسا شريعة تُملى من السماء بل كيان سياسي ينشأ بإرادة الناس ويكون نتيجة وعيهم حتى ولو كانت خلفية هذا الوعي دينية. في العلمانية الحقة هناك قطبان: أحدهما السماء وثانيهما الأرض. إذا اعتبرت أن ما يجري يقرره من على الأرض فأنت علماني، ولا يتعلق ذلك بالإيمان بالله؛ وإذا اعتبرت أن ما يجري على الأرض تقرره السماء، تكون ضد العلمانية حتى ولو كفرت. لا تتعلّق العلمانية بالكفر والإيمان بل بالسياسة ومن يصنعها، بالأحرى من يمليها، قطب السماء أو قطب الأرض. باختصار، تكون العلمانية أو عدمها حسب الاعتبار أن ما يجري على الأرض يراه أهل الأرض بضمائرهم أو السماء بوكلائها من أصحاب العمائم وغيرها.

 

الدين السياسي منتصر سياسياً في المجتمعات السياسية ما دام قادراً على فرض الشريعة كمصدر للدستور والقانون أو أحد مصادر التشريع. أدى ذلك الى إغلاق العقل. إذ بات المجتمع يدور حول نفسه معتبراً أن ما عنده من الموروث الثقافي يكفي. الأمر يجب أن يكون كذلك كونه موحى به من السماء ويتلقفه وكلاء السماء (أهل العمائم بالدرجة الأولى وغيرهم من غير رجال الدين الذين يشكلون غالبية المجتمع بمزاجهم الديني الذي يدور حول الذات كمعطى من السماء). يؤدي ذلك الى انغلاق العقل والدوران حول نفسه. من مظاهر ذلك الدعوات المتكررة لدى النخب الإسلامية الى أسلمة العلوم الحديثة كالفيزياء، والكيمياء، والبيولوجيا، وعلم النفس، الخ…؛ فكأن المعرفة، معرفة الطبيعة، تكون إسلامية أو غير إسلامية، وكأن ذرات الفيزياء يهمها الى أي دين انتمت. يصر هؤلاء المثقفون على التقوقع في ثقافة يعتبرونها إسلامية، ويعتبرون أن نظريتها الحديثة يجب أن تبقى كيانا منفصلاً. فهناك مواجهة بين الثقافة الإسلامية والثقافة الحديثة، أي الغربية. ولا يدرون أنهم يمارسون عنصرية ثقافية مضادة. يعترفون ضمناً بتفوّق ثقافة الغرب ولا يريدون الأخذ بها. في رأيهم أن دخول الثقافة الغربية الى بلادنا، أو “تسللها” الى عقولنا. هي مؤامرة غربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى