مقال

يحيى بن خالد البرمكي “جزء 5”

يحيى بن خالد البرمكي “جزء 5”

بقلم / محمـــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء الخامس مع يحيى بن خالد البرمكي، وقد اختلفت الروايات في مصير يحيى البرمكي، فمنهم من قال بأن الرشيد حبسه في السجن حتى مات، ومنهم من قال إشه حبسه تحت إشراف البرامكة فأطلقوا سراحه دون استئذان الرشيد، ولكن الرشيد ما إن حبس يحيى حتى استقبل ابنه الفضل في بغداد وأكرمه إكراما عظيما، وقد تميز الفضل بأخلاق جدية صارمة، وفي سنة مائة وسبعة وسبعين من الهجره، سُمي الفضل والي على خرسان، فلما صار إليها أزال سيرة الجور وبنى الحياض والمساجد، وأحرق دفاتر البغايا، وزاد الجند والقادة ووصل الزوار والكتاب، فحسنت سيرته، وأمر بهدم النوبهار فلم يقدر عليه لإحكام بنائه، فهدم منه قطعة وبنى فيها مسجدا، وفي خراسان جند الفضل جيشا من العجم وأطلق عليهم اسم العباسية بلغ عدده خمسمائة ألف رجل، أرسل عشرين ألفا منهم إلى بغداد.

 

وظل الباقون في خرسان، ولما خالف أهل الطالقان افتتح الفضل بلادهم، وزحف صاحب الترك في جيش كبير ولقي عسكر الفضل والتحمت بينهما الحرب، واستباح الفضل عسكر الطالقان، وغنم أمواله، وقد كلف الفضل إبراهيم بن جبريل بفتح بلاد كابل، فافتتحها وغنم غنائم كثيرة، وقاد حملة ضد مملكة أشروسنة وكانت المملكة ممتنعة، غير أن الفضل لم يكتب له النصر في حروبه في أرمينية، وقد ذكر اليعقوبي أنه لما ولى الرشيد الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي أرمينية، وسار إليها بنفسه، فلما قدم توجه إلى ناحية الباب والأبواب، فغزا قلعة حمزين، فهزمه أهل حمزين، فانصر ما يلوي على شيء حتى أتى العراق واستخلف على البلد عمر بن أيوب الكناني، وكان الرشيد قد جعل ولده محمدا في حجر الفضل بن يحيى.

 

والمأمون في حجر جعفر، فاختص كل واحد منهما بمن في حجره، لذلك كان للفضل الدور البارز في أخذ البيعة لمحمد بن الرشيد، إذ أنه لما صار إلى خرسان فرق بين سكانها الأموال وأعطى الجند أعطيات متتابعات، ثم أظهر البيعة لمحمد بن الرشيد، فبايع الناس له وسماه الأمين، ولما انصرف الفضل من خرسان إلى العراق في آخر سنة مائة وتسعة وسبعين من الهجره، قد استقبله الرشيد استقبالا حافلا، وقال الطبري لما قدم الفضل بن يحيى من خرسان خرج الرشيد إلى بستان أبي جعفر يستقبله، وتلقاه بنو هاشم والناس من القواد والكتاب والأشراف، فجعل يصل الرجل بالألف ألف وبالخمسمائة ألف، وأحب الرشيد تقليد جعفر الخاتم، وكان إلى الفضل، ورغبة منه في عدم إعطاء قراره هذا طابع العزل، وجد الصيغة المناسبة لإعلان هذا الحدث.

 

وأرسل إلى يحيى البرمكي إن أمير المؤمنين رأى أن ينقل خاتم الخلافة من يمينك إلى شمالك، وصرف الرشيد الفضل بن يحيى عن الأعمال التي كان يتقلدها أولا، ثم ظهر من الرشيد في سنة مائة وثلاثة وثمانين من الهجره، قد سخط على الفضل بن يحيى، ونزع منه كل وظائفه، وبقي فقط وصيا على ولي العهد محمد الأمين، وهي الوظيفة التي حصل عليها قبل أن يذهب إلى الري، وبينما كان يحيى البرمكي يميل إلى الفضل، فكان الرشيد يميل إلى جعفر، وكان جعفر سمح الأخلاق طلق الوجه، ظاهر البشر، وهذه الصفات قربته من الرشيد فآنس به أكثر من أنسه بأخيه الفضل، ولم يكن له صبر عنه، فأنزله بالخلد بالقرب من قصره، وتباعد ما بين الفضل وجعفر، وذلك لأن الفضل كان يلتمس من جعفر أن يعطيه بعد اختصاص الرشيد إياه من نفسه.

 

مثل ما كان يعطيه قبل ذلك، وقد ساعد الرشيد جعفر في مهماته المختلفة، وكثيرا ما كان الرشيد يقول ليحيى أنت للفضل وأنا لجعفر، وكان جعفر متمكنا عند الرشيد غالبا على أمره واصلا منه، وبلغ علو المرتبة عنده مالم يبلغ سواه، حتى أن الرشيد اتخذ ثوبا له زيقان، فكان يلبسه هو وجعفر جملة، وذكر المقدسي أن هارون كان مختصا بجعفر بن يحيى بن برمك حتى أمر فخيط له قميص ذو جيبين، يلبسه هارون وجعفر لثقة به واختصاصه به، وروى الجهشياري أن الرشيد كان يسمي جعفرا أخي، وقيل أنه كان يدخله معه في ثوبه، وقلده بريد الآفاق ودور الضرب والطرز في جميع الكور، كما أشركه معه في النظر في المظالم، وفي سنة مائة وستة وسبعين من الهجره، قد كثر تظلم أهل مصر من موسى بن عيسى، فولى الرشيد جعفر بن يحيى على مصر.

 

وعندما هاجت العصبية بالشام في سنة مائة وثمانين من الهجره، وزاد خطرها غضب الرشيد لذلك وعقد لجعفر بن يحيى على الشام، وقال له إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا، فقال له جعفر بل أقيك نفسي، فقصد جعفر الشام وأصلح بينهم وأخمد الثورة، ولما نجح جعفر في إطفاء نيران الفتنة، ولى جعفر صالح بن سليمان البلقاء وما يليها، واستخلف على الشام عيسى بن العكي وانصرف، فازداد الرشيد له كرما، وفي نفس السنة ولى الرشيد جعفر بن يحيى على خرسان وسجستان، وفي سنة مائة واثنين وثمانين من الهجره، قد تمكن جعفر من الحصول على وصاية عبد الله المأمون بعد أن أخذت البيعة له كولي للعهد بعد الأمين، وفى في عهد جعفر اشتدت قبضة البرامكة على أمور الحكم، وبلغت سلطتهم حدا كبيرا.

 

فثقة هارون الرشيد الكبيرة بجعفر جعلت له مكانة مرموقة وسلطة واسعة في الدولة، وأصبحت كلمته هي الكلمة النافذة، إذ لم يكن أحد يجسر على أن يرد عليه قولا ورأيا، ولم يزل البرامكة في عز وجاه وسلطان وفي ذروة المكانة عند الرشيد حتى قيل إن أيامهم عرس وسرور دائم لا يزول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى