مقال

الدكرورى يكتب عن غزوة مؤتة “جزء 2”

الدكرورى يكتب عن غزوة مؤتة “جزء 2”

بقلم / محمــد الدكــرورى

 

ونكمل الجزء الثاني مع غزوة مؤتة، وها هي قد ارتفعت صيحات التكبير من المسلمين، وحمل الراية زيد بن حارثة رضي الله عنه، وأعطى إشارة البدء لأصحابه، وقد اندفع كالسهم صوب الجيوش الرومانية، وكان قتالا لم يشهد المسلمون مثله قبل ذلك، ارتفع الغبار في أرض المعركة في ثوان معدودات، وما عاد أحد يسمع إلا أصوات السيوف أو صرخات الألم، ولا يتخلل ذلك من الأصوات إلا صيحات تكبير المسلمين، أو بعض الأبيات الشعرية الحماسية التي تدفع المسلمين دفعا إلى بذل الروح والدماء في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، وقد سالت الدماء غزيرة في أرض مؤتة، وتناثرت الأشلاء في كل مكان، ورأى الجميع الموت مرارا ومرارا ، وكانت ملحمة بكل المقاييس، سقط على إثرها أول شهيد للمسلمين، وهو البطل الإسلامي العظيم والقائد المجاهد.

 

زيد بن حارثة رضي الله عنه، حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، سقط مُقبلا غير مدبر بعد رحلة جهاد طويلة بدأت مع الأيام الأولى لنزول الوحي، فكان رضي الله عنه من أوائل من أسلم على وجه الأرض، وقد صحب الرسول صلى الله عليه وسلم في كل المواطن، وكان هو الوحيد الذي ذهب معه إلى الطائف،وهو الذي كان يدافع بكل ما أوتي من قوة عن حبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شُجّت رأسه، وسالت دماؤه غزيرة رضي الله عنه، وهنا وفي العام السادس من الهجرة يقود السرية تلو السرية في جرأة عجيبة، وكأنه يعد نفسه لهذا اليوم العظيم، يوم أن يلقى ربه شهيدا مقبلا غير مدبر، ولا يبكين أحد على زيد بن حارثة، فهذه أسعد لحظة مرت عليه منذ خلق، واجتمع المسلمين واصطفوا في مؤتة، وبدء عدد كبير من الرومان ونصارى العرب.

 

بالدخول إلى أرض مؤتة، وبدأ المسلمين بالتكبير، وكان زيد بن حارثة يحمل الراية، وأمر أصحابه ببدء القتال، فارتفع الغبار في أرض المعركة ولم يُسمع شيء سوى صوت التكبير وأصوات السيوف، فكانت ملحمة بكل المقاييس، واستشهد حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله عنه، وحمل الراية بعد زيد بطل آخر هو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ذلك البطل الشاب المجاهد ابن الأربعين عاما آنذاك، وقد قضى معظم هذه السنوات الخوالي في الإسلام، حيث أسلم في أوائل أيام الدعوة، وقضى ما يقرب من خمس عشرة سنة في بلاد الحبشة مهاجرا بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم عاد منها إلى المدينة المنورة في محرم سنة سبع من الهجرة، كان الرسول صلى الله عليه وسلم حينها في خيبر، فلم يقرّ له قرار.

 

حتى ذهب ليجاهد معه برغبة حقيقية صادقة في البذل والتضحية، ثم كانت هذه المعركة الهائلة، وقد حمل الراية بعد سقوط أخيه في الإسلام زيد بن حارثة، وقاتل قتالا لم يُري مثله، وأكثر رضي الله عنه الطعن في الرومان حتى تكالبوا عليه، وكان رضي الله عنه يحمل راية المسلمين بيمينه فقطعوا يمينه، فحملها بشماله فقطعوا شماله، فحملها رضي الله عنه بعضضيه قبل أن يسقط شهيدا، ليأخذ الراية من بعده بطل ثالث، هو عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما “وقفت على جعفر يومئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين، بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في دبره” أي ليس منها شيء في ظهره، يعني أنه قاتل دائما من أمام، لم يفر ولو للحظة واحدة رضي الله عنه، ومن أرض المعركة إلى الجنة مباشرة، لا يسير فيها.

 

بل يطير بجناحين، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” رأيت جعفر بن أبي طالب في الجنة مضرجة قوادمة بالدماء يطير في الجنة” وأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، كان إذا حيا ابن جعفر قال ” السلام عليك يابن ذي الجناحين” فقد أبدل الله جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بدلا من يديه اللتين قطعتا في سبيله بجناحين يطير بهما في الجنة، وحمل الراية بعد جعفر عبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه، ذلك المجاهد الشاب الذي شارك في كل الغزوات السابقة، وجاهد بسيفه ولسانه، وهو الذي كان يحمس المسلمين لأخذ قرار الحرب، وهو الذي كان يتمنى ألا يعود إلى المدينة، بل يُقتل شهيدا في أرض الشام، وحمل الراية، وقاتل قتالا عظيما مجيدا حتى تم قتلة في صدره رضي الله عنه.

 

ما تردد قط كما أشيع عنه، وكيف يتردد من يدفع الناس دفعا إلى القتال؟ كيف يتردد من يحمس الناس على طلب الشهادة؟ كيف يتردد من يثق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجعله على قيادة هذا الجيش الكبير؟ كيف يتردد من شهد له صلى الله عليه وسلم أنه شهيد؟ ومن دعا له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بالثبات؟ وكان يحدث نفسه إن تفعلي كما فعل زيد وجعفر رضي الله عنهما هديت، وبالفعل كان قتاله شديدا، وجهاده عظيما حتى طعن في صدره رضي الله عنه، وتلقى الدماء بيديه ودلك بها وجهه، وأصيب شهيدا كما ذكر النبى الكريم صلى الله عليه وسلم في مسند أحمد، وسقط القادة الثلاثة شهداء ليثبتوا لنا وللجميع أن القيادة مسئولية، وأن الإمارة تكليف وليست تشريفا، وأن القدوة هي أبلغ وسائل التربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى