مقال

الدكروري يكتب عن الإمام الحريري ” جزء 2″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام الحريري ” جزء 2″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

وتجمع المقامات التي أنشأها الحريري بين متعة القص والحكي وتحقيق الغاية البيانية البلاغية، ويذكر في مقدمة عمله مقصده بقوله”أنشأت خمسين مقامة تحتوي على جد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب ونوادره، إلى ما وشحتها به من الآيات، ومحاسن الكنايات ووضعته فيها من الأمثال العربية واللطائف الأدبية، والأحاجي النحوية والفتاوى اللغوية، والرسائل المبتكرة، والمواعظ المبكية، والأضاحيك الملهية” غير أن الصنعة البيانية قد غلبت على القص والحكاية، وزاد من افتتان الناس بها البراعة الفائقة والقدرة الفذة التي كتب بها الحريري هذا العمل، وكأن المعجم العربي قد نثر كله بين يديه يختار منه ما يشاء في صنعة عجيبة وإحكام دقيق، ولم يكتفي الحريري بالسجع والمحسنات البديعية في مقاماته، وإنما أضاف إليها أمورا أخرى غاية في التعقيد، لكنه تجاوز هذا التعقيد في براعة فائقة.

 

فأورد في المقامة السادسة التي بعنوان المراغية، وهي رسالة بديعة تتوالى كلماتها مرة منقوطة ومرة غير منقوطة، منها قوله “العطاء ينجي، والمطال يشجي، والدعاء يقي، والمدح ينقي، والحر يجزي” ويسمى المقامة السادسة والعشرين باسم الرقطاء، لأنها تحتوي على رسالة، تتوالى حروف كلماتها بالتبادل بين النقط وعدمه، مثل قوله “ونائل يديه فاض، وشح قلبه غاض، وخلف سخائه يحتلب” وفي المقامة الثامنة يخطب أبو زيد السروجي خطبة كل كلماتها غير منقوطة، بدأها بقوله “الحمد لله الممدوح الأسماء، المحمود الآلاء، الواسع العطاء، المدعو لحسم اللأواء، مالك الأمم، ومصور الرمم، وأهل السماح والكرم ومهلك عاد وإرم” وحظيت مقامات الحريري منذ أن ألفها الحريري باهتمام العلماء فأقبلوا عليها يشرحونها، لما زخرت به من الألفاظ والأمثال والأحاجي والألغاز، والمسائل النحوية والبلاغية، وقد أحصى حاجي خليفة.

 

وهو صاحب كتاب كشف الظنون أكثر من خمسة وثلاثين شارحا، منهم محمد بن علي بن عبد الله الحلي، ومحمد بن محمد المكي الصقلي المعروف بابن ظفر، وأبو المظفر محمد بن أسعد المعروف بابن حكيم، وعبد الله بن الحسين العكبري، وأحمد بن عبد المؤمن من موسى الشريشي، وقد انتبه المستشرقون منذ وقت مبكر إلى أهمية المقامات فأولوها عنايتهم وترجموها إلى لغاتهم، فقام المستشرق الهولندي جوليوس في سنة ألف وسبع وستين من الهجرة، بترجمة المقامة الأولى إلى اللغة اللاتينية، ثم نقل المستشرق الهولندي نفسه ست مقامات إلى اللاتينية، وفي فرنسا قام المستشرق كوسان دي برسفال بنشر المتن العربي الكامل سنة ألف وثلاثمائة وسبع وثلاثين من الهجرة، كما قام الأستاذ دي ساسي، بجمع مخطوطات المقامات وشروحها، وعمل منها شرحا عربيا، وطبع المتن والشرح في باريس سنة ألف ومائتان وثماني وثلاثين من الهجرة.

 

وكما ترجمت المقامات إلى الألمانية، وقام بالترجمة المستشرق ركرت، وتمتعت هذه الترجمة بشهرة واسعة في عالم الاستشراق، وترجمت إلى الإنجليزية سنة ألف ومائتان وأربع وثمانين من الهجرة، وكانت مقامات الحريري من أوائل ما طُبع من المكتبة العربية، وتوالت طبعاتها في باريس ولندن وليدن ولكنو ودلهي بالهند، والقاهرة وبيروت، وكما كان للحريري رسائل أدبية إلى جانب مقاماته، لم تحتفظ بها يد الزمن، فضاعت مع ما ضاع من التراث الإسلامي الضخم، ولكن احتفظ بعض الكتب القديمة ببعض رسائله، وقد سجّل المؤرخ ياقوت الحموي في معجم الأدباء رسالتين اشتهرتا في عصر الحريري والعصور التي تلته، إحداهما عرفت بالسينية لأن كلماتها جميعا لا تخلو من السين، والأخرى اشتهرت بالشينية، لالتزام كلماتها بإيراد حرف الشين، وقد استهل الرسالة السينية التي كتبها على لسان بعض أصدقائه يعاتب صديقا له بقوله.

 

“باسم القدوس أستفتح، وبإسعاده أستنجح، سجية سيدنا سيف السلطان السيد النفيس، سيد الرؤساء، حُرست نفسه، واستنارت شمسه، وبسق غرسه واتسق أنسه، استمالة الجليس، ومساهمة الأنيس، ومواساة السحيق والنسيب، وكما أن للحريري غير المقامات والرسائل مثل درة الغواص في أوهام الخواص، وبيّن فيه أغلاط الكتاب فيما يستعملونه من الألفاظ بغير معناها في غير موضعها، وقد تم طبع الكتاب في مصر سنة ألف ومائتان واثنين وسبعين من الهجرة، وملحة الأعراب في صناعة الإعراب، وهي أرجوزة شعرية وقد تم طبعها في باريس وبيروت والقاهرة، وكما ذكر الإمام الذهبي أن الحريري أنجب ابنين هما نجم الدين عبد الله، وضياء الإسلام عُبيد الله، وكان قاضي البصرة، وكان أبو محمد القاسم الحريري يزعم أنه من ربيعة الفرس، وكان مولعا بنتف لحيته، والحريري هي نسبة إلى الحرير وعمله أو بيعه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى