مقال

الدكروري يكتب عن الإمام ابن كمال باشا ” جزء 3″

جريدة الاضواء

الدكروري يكتب عن الإمام ابن كمال باشا ” جزء 3″
بقلم / محمـــد الدكـــروري

فتحول من صفوف الجيش إلى صفوف العلماء، وذلك بعناية إلهية خاصة رفعته بالعلم والإخلاص مقاما عليا، فقد قص علينا ابن كمال باشا قصة تحوله من صفوف العساكر السلطانية إلى صفوف العلم، فلنترك له الحديث، فهو بِها أولى، وبروايتها أجدر، فقال ابن كمال باشا “وكنت واقفا على قدميّ أمام الوزير والأمير المذكور لطفي عنده جالس، إذ جاء رجل من العلماء، رث الهيئة، دنيء اللباس، فجلس فوق الأمير المذكور لطفي، ولم يمنعه أحد عن ذلك، فتحيرت في هذا، فقلت لبعض رفقائي من هذا الذي جلس فوق هذا الأمير؟ فقال هو رجل عالم مدرس بمدرسة فليبه، يقال له المولى لطفي، قلت كم وظيفته؟ قال ثلاثون درهما، قلت فكيف يتصدر هذا الأمير، ومنصبه هذا المقدار؟ قال رفيقي إن العلماء معظمون لعلمهم، ولو تأخر لم يرض بذلك الأمير، ولا الوزير، فقال رحمه الله تعالى فتفكرت في نفسي، فقلت إني لا أبلغ مرتبة الأمير المسفور في الإمارة.

وإني لو اشتغلت بالعلم يمكن أن أبلغ رتبة العالم المذكور، فنويت أن أشتغل بالعلم الشريف” وقد أثرت هذه الحادثة في مفهوماته، فغير مجرى حياته جذريا، فترك الجيش بعد عودته من السفر، ولازم العلماء، ويقول “فلما رجعنا من السفر، وصلت إلى خدمة المولى المذكور لطفي، وقد أعطي هو عند ذلك مدرسة دار الحديث بمدينة أدرنه، وعين له كل يوم أربعون درهما فقرأت عليه حواشي المطالع، وقد سبق له قراءة مبادئ العلوم في صدر شبابه، وتحقق أمله وحلمه العظيم وأخذ العلوم عن أفواه الرجال النحارير، وقرأ الفنون على أفاضل الفضلاء المشاهير، منهم المولى مصلح الدين القسطلاني، والمولى خطيب زاده، والمولى معروف زاده، فأخذ علم الفروع والأصول عن المولى القسطلاني، وعن المولى حضر بك، وعن المولى يكان، وعن المولى شمس الدين الفناري، وعن الشيخ أكمل الدين البابرتي، وعن الإمام قوام الدين الكاكي.

عن الإمام حسام الدين السغناقي صاحب كتاب النهاية، وعن الشيخ الإمام حافظ الدين الكبير البخاري، عن شمس الأئمة الكردري، عن شيخ الإسلام برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني، صاحب كتاب الهداية، عن نجم الدين عمر النسفي، عن أبي اليسر البزدوي، عن أبي يعقوب اليساري، عن أبي إسحاق النوقدي، عن أبي جعفر الهندواني، عن أبي قاسم الصفار، عن نصير بن يحي، عن محمد بن سماعة، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة رحمهم الله، ويذكر ابن الحنائي علي أفندي أنه أخذ الفقه عن مولانا سنان باشا، وعن مولانا لطفي المقتول، ولعل هذا الأخذ والتلقي عن طريق المولى لطفي، عن المولى سنان باشا، إذ لم تذكر المصادر الأخرى تلمذته لسنان باشا مباشرة، لأن سنان باشا توفي عام ثماني مائة وواحد وتسعين أي قبل تحول ابن كمال باشا من صفوف الجيش إلى صفوف العلماء بست سنين تقريبا وكان المولى لطفي من أخص تلامذة.

المولى سنان باشا، ولما أتى المولى على القوشجي الرياضي الشهير، ببلاد الروم أرسله المولى سنان باشا إليه، وقرأ العلوم الرياضية عليه، وحصل سنان باشا العلوم الرياضية بواسطته، ويقول الكفوي “ومن لطائف صنع الله التي جلت أن تعد، وكبرت لعظم شأنها عن أن تحد، أنه لم يخل في عصر من الأعصار كافة المدن والأمصار عن ذي ذهن وقاد، وصاحب طبع نقاد، يبذل جهده في اكتساب ما يرفع في الدارين قدره، ويطلع من أفق النباهة بدره، فتصدى لاقتباس العلم ودراسته، ويجتهد في صونه عن الضياع حراسته، صرف همته إلى تحرير مراسم الشرع، وأجرى سواد الحبر في بياض الرّق، ووقف همته على تَمهيد قواعد الأصل والفرع، وسوّد وجه الباطل، وبيض محيا الحق، به كل من يقتدي يسترشد ويهتدي، وما هو في عهده إلا هذا المولى، واشتغل بالعلم الشريف بالغدو والآصال، ودأب، وحصّل، وصرف سائر أوقاته في تحصيل العلم.

ومذاكرته، وإفادته، واستفادته، حتى فاق الأقران، وصار إنسان عين الإنسان، قرأ عليه أي على المولى لطفي، ثم قرأ على غيره، إلى أن مهر، وصار إماما في كل فن، بارعا في كل علم، تشد الرحال إليه، وتعقد الخناصر عليه، وكما أن علماء القاهرة أقروا له بالفضل والإتقان في العلوم وكان العلامة ابن كمال باشا في فتح مصر مع السلطان سليم خان، وكان قاضيا بالعسكر المنصور بأناطولي، فلما دخل القاهرة لقيه أكابر العلماء، وأعاظم الفضلاء، وناظروه، وباحثوه، وتكلموا بما عندهم، فامتحنوه، فأعجبوا بفصاحة لسانه، وحسن كلامه، وبلاغة بيانه، وبسط مرامه، وأقروا له بالفضل والكمال، وكانوا يذكرونه بغاية التبجيل والإجلال، ويشهدون أن ليس في العرب له عديل، ولا في أفاضل العجم والروم له عوض وبديل، وأجاز له بعض علماء الحديث بها أي بالقاهرة، وأفاد واستفاد، وحصل بها علو الإسناد، وشهد له علماؤها بالفضائل الجمة.

والإتقان في سائر العلوم المهمة، ولا تجد في عصره من يساويه في بلاده على الإطلاق، إذ كان فريدا في الديار الرومية، في كثرة التأليف، وسرعة التصنيف، ووسع الاطلاع، والإحاطة بكثير من العلوم، ولا ترى له نظيرا في عصره إلا في الديار المصرية في جلال الدين السيوطي رحمه الله، واختلف النقاد المترجمون في الموازنة بين هذين الطودين العظيمين، فذهب التميمي إلى أن ابن كمال باشا قد حاز السبق على السيوطي فقال “وعندي أن ابن كمال باشا أدق نظرا من السيوطي، وأحسن فهما، وأكثر تصرفا، على أنهما كانا جمال ذلك العصر، وفخر ذلك الدهر، ولم يخلف أحد منهما بعده مثله، رحمه الله تعالى” ومضى العلامة أبو الحسنات عبد الحي اللكنوي يرجح كفة الإمام السيوطي من زاوية معينة فقال عقب كلام التميمي “أقول هو إن كان مساويا للسيوطي في سعة الإطلاع في الأدب والأصول، لكن لا يساويه في فنون الحديث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى