مقال

أين أنتم يا عرب ؟

جريدة الاضواء

أين أنتم يا عرب ؟
كتب / يوسف المقوسي
يقول الراضون عن الهبة الفلسطينية من خارج فلسطين إنها جاءت نتيجة هجمات المستوطنين الإسرائيليين ضد المدنيين الفلسطينيين والتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس وسياسات اليمين المتطرف الشريك في الحكومة الإسرائيلية ونتيجة عرض بنيامين نتنياهو في الأمم المتحدة خريطة تظهر إسرائيل تحتل كل فلسطين التاريخية والجولان، ولم تعترض دولة غربية واحدة وخاصة الولايات المتحدة على هذا التحدي الصارخ للأمم المتحدة بينما تصر على كونها حامية لقواعد العمل الدولي.
بالمقابل، يقول الغاضبون إن هذه الهبّة جاءت نتيجة تدريب طويل لقوات “حماس” وتحميس من جانب إيران ودعم مستمر وإن مستتر من جانب دول عربية ونتيجة تعمق الخلافات داخل فصائل المقاومة الفلسطينية.
ويقول مراقبون إن الهبّة الحماسية الأخيرة حلقة في سلسلة هبّات تحمل جميعها سمات غزاوية بامتياز متأثرة بالتطورات في الكيان الفلسطيني الأكبر، ولكن جاءت هذه الهبّة الأخيرة متأثرة أكثر من الهبّات السابقة بالتطورات الهامة في إقليم الشرق الأوسط وإسرائيل بشكل خاص وفي العالم الخارجي بشكل عام. جاءت أيضاً متفاعلة بشدة مع حال احتقان قومي على مستوى النظام العربي ككل وحال نهوض سياسي متعثر على مستوى ما صار يعرف بعالم الجنوب.

لن أستطيع في هذه الساعات المبكرة وأمامي على الشاشة صور لإحدى آخر محارق العصر، محرقة بأيدي أحفاد من نجوا من محارق هتلر، لن أستطيع في مساحتي الراهنة الا أن ألم بأقل القليل من الملاحظات.
كان المنظر السياسي لرد فعل أمريكا والاتحاد الأوروبي دافعاً للشفقة. ليس هكذا تُدار الأزمات الساخنة، سواء صدرت ردود الفعل من الرئيس الأمريكي بلسانه أو من موظفيه على وزن السيدين أنتوني بلينكين وجايك سوليفان والتي صدرت على الناحية الأخرى من الأطلسي من السيدة أوروسولا فون دير لاين صاحبة الوزن الخفيف جداً في معظم المهام التي كلفت بتنفيذها، فقد جاءت جميعها تُعبّر بكل الصدق عن سبب من أهم أسباب “نكسة” الغرب الراهنة. حاملة طائرات أمريكية تتحرك في الشرق الأوسط لترهيب الفلسطينيين بينما لم يصدر عتاب أمريكي لخطاب نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة أو لموقف حكومته من عمليات القتل العمد لفلسطينيين على أيدي مستوطنين ولم يصدر عن واشنطن أو بروكسل ما يمكن أن يردع إسرائيل عن بناء مستوطنات وهدم منازل فلسطينيين.

كنا، في هذا الجزء من العالم، نأمل في أن تفتح الهبّة الفلسطينية عيون وعقول السياسيين في الغرب على حقيقة أن استمرار انحدار الغرب صار يكلف العالم غالياً. أوكرانيا تدفع هذه الأيام ولأيام كثيرة قادمة جانباً من هذا الثمن. بل سمعت ورأيت سياسياً كبيراً جداً في حكومة الهند يُجرّب حظ بلاده باللعب مع الغرب والإعلام الصهيوني على مصائر شعب في الشرق الأوسط متجاهلاً أبجديات الإقليم أو جاهلاً بها. لم نكد نتفاءل خيراً بتوسع مجموعة “البريكس” وباحتمالات العودة لممارسة دبلوماسية جنوبية جديدة تستعيد للشعوب استقلال إرادتها وتحرّرها من هيمنة العقلية الإستعمارية الأنجلوفونية والفرانكوفونية على حد سواء إلا ووجدنا بعض ساسة الهند يقرّرون الانصياع نحو تنفيذ ما أملته واشنطن على عديد الدول في العالم للتعامل مع هذا التطور الجديد في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.

نعرف، والعالم يعرف، أن ثلث حكومات العرب متوقفة أو موقوفة عن العمل. نعرف، والعالم يعرف، أن الجامعة العربية بهذا المعنى ومعان أخرى تعمل بأقل من نصف طاقتها وبأقل من ربع إرادتها. نعرف أيضاً، ويعرف حكام إسرائيل الجدد والقدامى على حد سواء أن العربي العادي في كل بيت وشارع غاضب أشد الغضب، وليس هناك من أو ما يمكنه أن يمتص هذا الغضب أو يُخفّف من وقعه على سلوك هذا العربي أو غيره في الأيام والشهور والسنوات المقبلة.

سمعت من حكيم غربي قوله: “غداً أو بعد غد وقد برد غضب نتانياهو وعصابته وهدأت شهوتهم للقتل والإبادة تحت تأثير الإجماع الغربي ضد الفلسطينيين، لماذا لا نبدأ بجمع الطرفين على مائدة “سلام أبدي”؟. لن تمانع حكومات العرب أو على الأقل الموجود منها”. سمعت حكيماً آخر يردُ عليه بالقول، “كيف توصلت إلى قناعة تقضي بأن كلاً من تركيا وإيران لن تحاول لتملأ فراغاً أخلّته توازنات قوة جديدة في الإقليم”.

سمعت ثالثاً ادعى الحكمة بواقعية هادئة، سمعته ينصح بأن “لا تتعجلوا.. فحملة الانتخابات الأمريكية لم تبدأ فعلياً وسوف تزداد بالتأكيد حاجة جو بايدن وفلوله في الحزب الديموقراطي الى أصوات اليهود وتمويلات الجمعيات الصهيونية، فليستمر القتل المتبادل ليستمر معه الطلب الإسرائيلي على الدعم المعنوي والمادي نقداً وسلاحاً من أمريكا ودول الإتحاد الأوروبي وتطبيعاً أشمل وأعمق مع نظام عربي أو شرق أوسطي جديد”.

قرأت لرابع تحليلاً يحمل الزعم بالفهم الواثق للعقل السياسي المهيمن هذه الأيام على تفكير صانع السياسة في واشنطن وما وراءها من مؤسسات أعمق. يفترض التحليل أن أزمة غزة الأخيرة كانت الفرصة الثمينة أمام حكومة بايدن لاستعادة لم شمل حلفاء الغرب. حليف بعد الآخر يعترض على نصيبه في دعم الحرب الأوكرانية، حليف آخر ينتخب حكومة ضد الحرب أو أقرب للتحالف مع روسيا، حليف ثالث أو رابع يدعي حقاً في قيادة فصيل من الحلفاء غير المطمئنين لقيادة الرئيس بايدن لحلف الأطلسي وغير الواثقين في الوقت نفسه من “صحة” قلب السياسة الأمريكية، فالقيادة السياسية للحزبين في واشنطن مفككة ومتخاصمة وبدائل المستقبل لا توحي بالثقة والاطمئنان. أضف الى ما سبق حقيقة أن “المسألة الغربية” تزداد تعقيداً مع مرور الوقت ومع كل انحدار، أو سمه تدهوراً، في حال النظام السياسي للمملكة المتحدة، “الحليف المرجع” لواشنطن.

مرة أخرى يخرج من يلقي باللوم على روسيا. روسيا مسئولة عن الصراعات الدائرة، أو كانت دائرة، في القوقاز بين الآذريين والأرمن وفي البلقان بين كوسوفو وصربيا وفي افريقيا بين شعوبها وفرنسا والآن في الشرق الأوسط بين إسرائيل والفلسطينيين. سخف حتى وإن صدر حقاً عن هنري كيسنجر.

نسأل مع السائلين، “من، وماذا، يمكن أن يروي ظمأ بنيامين نتنياهو الشخصي إلى الانتقام من كل الذين في الداخل الإسرائيلي والخارج الفلسطيني والشرق أوسطي تسببوا بشكل مباشر أو غير مباشر في إشعال هذه الهبّة الغزاوية أو طوّروها أو استفادوا منها”؟. القضية بالفعل هي الآن في أحد جوانبها على الأقل قضية شخصية. هذا الرجل لن يتاح له مرة أخرى هذا الدعم الغربي الكبير لشخصه المكروه غالباً في معظم عواصم الغرب وفي بعض دوائر اليهود الأمريكيين، ومكروهٌ بالتأكيد داخل إسرائيل من جانب التيارات الديموقراطية والعلمانية والاصلاحية كما أوضحت أزمة إصلاح قانون الحكم والقضاء. مكروهٌ الرجل وأعوانه المقربون داخل عواصم عربية عديدة. مكروهون بسبب عنصريتهم وتعاليهم المتعمد على السياسيين العرب. مكروهٌ نتنياهو بخاصة ومكروهة علاقته الوثيقة بوزير الدفاع الذي دأب على وصف خصوم إسرائيل في صفوف المقاومة الفلسطينية والعربية عموماً، بـ”الحيوانات المتوحشة”.

هناك، على الناحية الأخرى، أفرز الانتقام الإسرائيلي دماراً غير متناسب بالمرة مع ما تسببت فيه الهبّة الغزاوية من خسائر في الأرواح والممتلكات الإسرائيلية. عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وأكثرهم من أبناء وأحفاد النكبة الأولى، يجدون أنفسهم لاجئين ونازحين وأمامه مساكنهم ينبعث من ركامها الدخان مختلطاً بالتراب. سوف يكتمون في صدورهم الأسى والغضب ليوم أو شهر أو عقد أو حتى لقرن ويعودون.

المحرقة الأولى، على بؤسها، تتوالد على أيدي ضحاياها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى