القصة والأدب

زهرة التيوليب”

جريدة الاضواء

وفاء عرفه
قصة قصيرة. “زهرة التيوليب”

إستيقظت ناريمان هانم على صوت مدبرة منزلها، تخبرها أنها تسلمت باقة من الورود مرسلة لها، وضعتها علي منضدة صغيرة بجوارها، ثم إلتقطت من بين الزهور مظروف مدون عليه اسم ناريمان هانم، فناولتها إياه و إعتدلت ناريمان جالسة علي حافة فراش نومها، وضعت نظارة القراءة على عينيها الخضروان الجميلتان، بشغف بدأت في قراءة البطاقة المُدون عليها تلك العبارات ”حبيبتى كل عيد حب لنا و أنتِ مليكة قلبى يا كل نساء العالمين و توأم روحي“ زوجك العاشق” إبتسمت ناريمان و بدت فى عينيها بارقة دموع و قالت بصوت مسموع: إبن أبيك يا أكرم، فأجابت مديرة المنزل حقاً ياهانم، الأستاذ أكرم يشبه البيه الكبير ”رحمة الله عليه “ فى أغلب تصرفاته و أيضاً في شكله سبحان الله، علي رأى المثل الشعبي ”اللى خلف ما متش“ و غادرت الغرفة لتحضير الإفطار، إستقامت ناريمان من جلستها بعد إفطارها و تناول قهوتها اليومية، حملت باقة الورود و كأنها تحمل بين يديها ذكريات العمر كله، إنفرجت أساريرها من السعادة و هى تعبُر بنظرة حنين على الكلمات المدونة بالبطاقة، عادت للماضى البعيد هى نفس كلمات زوجها، و تملكتها الحيرة كيف جاء أكرم بنفس الكلمات؟ كانت قد وصلت إلى المزهرية و بدأت فى تنسيق الورود ثم باغتها سؤال جديد و كيف عرف أكرم؟ حبى لهذا النوع من الزهور فى هذه المناسبة تحديداً، و قبل أن تنتهى من تساؤلاتها و حيرتها، دخل عليها أكرم إبنها الأكبر بإبتسامته المعهودة، و بمنتهى الحب وضع قبلة على يدها، و قال لها: كل عيد زواج يا أمى و أنت بخير و رحمة الله على أبى، إنه عيد زواجكما الأول بعد رحيله، ثم ضمها إلى صدره عندما لمح دموع في مُقلتيها تأبى أن تنساب على خديها، فهو يعلم أن أمه إمرأة تحتمل ما فوق طاقة البشر.
قالت ناريمان: حبيبى يا أكرم منذ رحيل أبيك و أنت تشعرنى بوجوده، فى كل أفعاله و لا تنسى شيئاً من إحتياجات الأسرة بأكملها، حتى زهور التيوليب المفضلة عندى أحضرتها لى إحتضن أكرم كف أمه قائلاً : حبيبتى يا ماما لن أستطيع أن أملأ مكانة أبى أبداً،و صمت خيفة من أن يتأثر أمامها، و ضحك قائلاً: المهم الورد عجب حضرتك يا ست الكل، أعلم أنك تحبيه ثم إستأذن أكرم من والدته ليلحق بعمله، و أخبرها أنه سيمر عليها بالمساء ليتناولا العشاء معاً بالخارج، إبتسمت أمه له و أحاطته بالدعاء و إستودعته الله.
ناريمان في منتصف العقد الخامس من عمرها، رغم سنها فهى مازلت رشيقة تحافظ على صحتها و تهتم بمظهرها، لم تختلف عن شبابها إلا قليلاً، هى سيدة مثقفة تحب الموسيقى و تعشق القراءة، و مارست دورها فى الحياة بجدارة مشهود من الجميع على حكمتها و نقاء ذاتها، تزوجت من حبها الأول و الأخير، منذ أقل من عام توفى زوجها فجأة، و عانت كثيراً من صدمتها بفراق شريك رحلتها و حبيب عمرها، ثم قررت أن تحيا مع ذكريات زوجها حتى تلقاه فى الحياة الأبدية، هى تعيش مع روح زوجها بلا جسد، توصلت ناريمان لقناعة تساعدها على مواصلة الحياة بلا شريك حياتها، وهى أن فى الموت يفنى الجسد فقط لكن الروح تظل حولنا، يُمكننا التواصل معها متى شئنا، هكذا تشعر أن روح زوجها تلازمها كظلها، تتحدث معه و تضمه و تشاركه كل الأحداث، و بهذه الفكرة تأقلمت على فراق زوجها.
حان الوقت لإن تستعد ناريمان لموعد العشاء مع إبنها توجهت إلى خزانتها، و بعناية فائقة بدأت تختار ما سترتديه الليلة، إستقر رأيها على رداء أبيض أهداه لها زوجها، ضاربة باللون الأسود عرض الحائط، و إختارت من مجوهراتها عقد من حبات اللؤلؤ الأبيض، و ستضع عطرها الفرنسي المفضل لها، ستبدو بكامل أناقتها كما كانت بالعام الماضى مع زوجها.
لكنها اليوم مع إبنها أكرم الثمرة الأولى لقصة حبها التى لن تنتهى حتى لقاء الخلود.
فى الموعد المحدد وصل أكرم و خرجت أمه من حجرتها، مستعدة للخروج فى أبهى صورها، أثنى أكرم على والدته بكلمات رقيقة تناسب أناقتها، و لا يخلو حديثه من مشاغبة الإبن لأمه في وصف أناقتها، وهى تضحك و تحاول إيقافه فى خجل، ثم تأمُره بالذهاب و هى تبتسم و تعلق يدها فى ذراعه.
أمام إحدى المطاعم الفاخرة، توقفت سيارة أكرم و خرج منها ليستقبل أمه، و يدخلان إلى المكان و عند مائدة فاخرة، أجلس أكرم أمه و كان كل شئ معد مسبقا بناء علي طلب أكرم و هو يحجز في المطعم، بداية من موقع المائدة و قائمة الطعام، مروراً بمقطوعة الموسيقى المختارة بدقة لتعزف أثناء بقائهما، فى هذه الأجواء الدافئة و أثناء العشاء، تجاذب الإثنان أطراف الحديث فى كل شئ، و أعربت ناريمان عن سعادتها عن مفاجأة أكرم لها الليلة، و أسرت إليه سراً بإنها كانت تحمل هم مرور هذه الليلة عليها فى وحدتها، أكد لها أكرم أنها لست وحيدة أبداً، فالجميع حولها و يحبونها كثيراً لإنها محور الأسرة كلها و سبب سعادتهم.
بعد العشاء أعاد أكرم والدته إلى المنزل و قال سأضع السيارة بالجراج أسفل المنزل و أعود لأبقى هنا حتى يغلبك النعاس يا أمى، إبتسمت و قالت له فى إنتظارك ياحبيبي،
فى طريقها إلى حجرتها رأت الزهور، فإلتقطت واحدة منها بيدها و كأنها تغازلها، و تود لو تَسمعُها فتحكى لها سعادتها اليوم، و جلست بملابسها على حافة فراشها مستندة علي وسادتها، و الوردة بيدها ثم داهمتها الذكريات و سبب حبها لتلك النوع من الزهور، لأنها كانت أول وردة من زوجها لها يوم إعترافه بحبه لها، و ذكرى تلو الآخرى تتسابق جميعاً أمام أعين ناريمان وهى فى قمة سعادتها حتى غالبها النوم على نفس وضعها بفراشها.
عاد أكرم و دخل غرفة والدته فوجدها غارقة فى النوم، قابضة بيدها على زهرة التيوليب، إبتسم لذلك المشهد الملائكى و ربما لأول مرة يتضح له، أن أمه لست السيدة الحكيمة فقط بل هى أيضاً جميلة قلباً و قالباً وتستحق سعادة العالم كله.
لم يتخيل أكرم أن باقة من الزهور و دعوة علي العشاء لأمه تسعدها بهذا القدر، وضع أكرم قبلة على جبين أمه النائمة و عدل من وضعية نومها بهدوء، خرج من غرفتها على مهل، و أثناء مروره للخارج و قعت عينيه على المزهرية، فإبتسم و قال بصوت مسموع، شكراً زهور التيوليب…
الكاتبه والأدبية وفاء عرفه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى