مقال

الدكروري يكتب عن جمال الدين الأفغاني ” جزء 5″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن جمال الدين الأفغاني ” جزء 5″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ونكمل الجزء الخامس مع جمال الدين الأفغاني، وسبقها الأقطار الشرقية في التقدم العلمي والفكري والسياسي، ويزيد هذه الحقيقة وضوحا أنك لو نظرت إلي حياة جمال الدين العامة، وماتركه من الأثر في مختلف الأقطار الشرقية التي بث فيها دعوته، وجدت أثره في مصر أقوى وأعظم منه في أي بلد من البلدان الأخرى، وفي هذا مايدلك على مبلغ استعداد مصر للنهضة والتقدم، إذا تهيأت لها أسباب العمل ووجدت القادة والحكماء، وقد حدد الباحثون دوره الهام في إعطاء دفعة قوية للنهضة الأدبية الحديثة في الطرق الأربعة وهو إعداد الأجواء المناسبة‌ للنهضة‌ الأدبية بواسطه الإصلاح الدينی والصحوة الإسلامية والوعی القومی، وکتابة مـقالات سياسية في الصحف والجرائد بلغة سهلة تقل فيها الصنعة‌، والدعوة‌ إلى تحرير الکتابة من التعقيد والتقليد وجعلها في خدمة الفکر لا‌ في خدمة الاسلوب.

 

وبذلك فتح الطريق أمام الكتاب والأدباء لتطوير الكتابة الأدبية، وكما إن محمود سامي البارودي کرائد للشعر‌ العربی‌ المعاصر‌ کان من تلاميذ جمال الدين الأفغاني، وتأثر بأفكاره كثيرا، وإن الشيخ محمد‌ عبده رائد النثر المعتدل کان من أقرب تلاميذ السيد جمال الدين وکان بدوره قد أثَر علی‌ المنفلوطي والذی‌ يعد رائد النثر العربي الحديث، وقد جاء جمال الدين الأفغاني إلى مصر يحمل بين جنبيه روحا كبيرة، ونفسا قوية، تزينها صفات وأخلاق عالية، أنبتتها الوراثة والتربية الأولى، وهذبتها الحكمة والمعرفة، ومحصتها الحياة الحربية التي خاض غمارها في بلاد الأفغان، والتجارب التي مارسها، والشدائد التي عاناها جاء وفيه من الشمم والإباء ما صدفه عن أن يطأ طأ الرأس أو يقيم على الضيم، جاء وفيه من الثبات ما جعله يتغلب على العقبات التي اعترضته في أدوار حياته، فقد رأيت كيف بقي على ولائه للأمير محمد أعظم.

 

رغم ما أصابه من الهزيمة ولم يخضع لخصمه شير على، ورحل إلى الهند، فلم تطق السياسة الاستعمارية بقاءه فيها وأقصته عنها، وذهب إلى الأستانة، فلم يعرف التملق والدهان، وجهر بالحق، واستهدف لعداوة شيخ الإسلام، فلم يتراجع ولم ينكص على عقبيه، وانتهى الخلاف بإقصائه عن الأستانة، فهذه الأخلاق التي جاء بها جمال الدين كانت بلا مراء أقوى مما عرف عن المجتمع، في ذلك العهد، من خفض الجناح، والصبر على الضيم والخضوع للحكام، وليس يخفى ما للشخصيات الكبيرة من سلطان أدبي على النفوس وما تؤثر فيها من طريق القدوة، فالسيد جمال الدين بما اتصف به من الأخلاق العالية، أخذ يبث في النفوس روح العزة والشهامة، ويحارب روح الذلة والاستكانة، فكان بنفسيته ودروسه وأحاديثه، ومناهجه في الحياة، مدرسة أخلاقية، رفعت من مستوى النفوس في مصر.

 

وكانت على الزمن من العوامل الفعالة للتحول الذي بدا على الأمة وانتقالها من حالة الخضوع والاستكانة إلى التطلع للحرية والتبرم بنظام الحكم القديم ومساوئه، والسخط على تدخل الدول في شؤون البلاد، وقد اسرفت حكومة إسماعيل في القروض، وبدأت عواقب هذا الإسراف تظهر للعيان رغم ما بذلته الحكومة لإخفائها بمختلف الوسائل، وأخذت النفوس تتطلع إلى إصلاح نظام الحكم بعد إذ أحست مرارة الاستبداد وهالتها فداحة القروض التي كبلت البلاد بقيود تدخل الدول، وكان مبدأ التدخل الأوربي، في أواخر سنة ألف وثماني مائة وخمس وسبعين من الميلاد، وأوائل سنة ألف وثماني مائة وست وسبعين من الميلاد، إذ حدث من مظاهره وقتئذ شراء إنجلترا أسهم مصر في القناة ثم قدوم بعثة المستر كيف الإنجليزية لفحص مالية مصر، ثم توقف الحكومة عن أداء أقساط ديونها.

 

وما اعقب ذلك من إنشاء صندوق الدين في مايو سنة ألف وثماني مائة وست وسبعين من الميلاد، فهذا التدخل كان من الأسباب الجوهرية التي حفزت النفوس إلى التبرم بنظام الحكم، والتخلص من مساوئه، لأن سياسة الحكومة هي التي أفضت إلى تدخل الدول في شؤون مصر وامتهانها كرامة البلاد واستقلالها ومن هنا جاءت النهضة الوطنية والسياسية، ووجدت مبادئ حكيم الشرق وتعاليمه سبيلا إلى النفوس، فكانت من العوامل الهامة في ظهور هذه النهضة التي شغلت السنوات الأخيرة من عهد إسماعيل وكانت من أعظم أدوار الحركة القومية، وكان من مظاهر هذه النهضة نشاط الصحف السياسية، وإقبال الناس عليها، وتحدثهم في شؤون البلاد العامة، وتبرمهم بحالتها السياسية والمالية، ثم ظهور روح المعارضة واليقظة في مجلس الشورى، على يد نواب كان لجمال الدين فضل عليهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى